تحليل

السياسة كما نراها وكيف أصبحت عندنا وكما يراها غيرّنا

أحمد الحطاب

ما أبدأُ به هذه المقالة، هو إلقاء بعضَ الضوء على ما هو المقصود لُغوياً واصطلاحياً من مفهوم "سياسة".

حسب المعاجم والقواميس العربية، "سياسة" اسمٌ مشتق من فعل "سَاسَ". بل "سياسة" هي مصدر فعل "سَاسَ". وفعل "ساس"، من بين معانيه، حين نقول "فلانٌ ساس أمورَ جماعة من الناس"، أي أدارَها ودبَّرها ورعاها وسيَّرها. في هذه الحالة، السياسة هي مجموعةُ مبادئ وتوجُّهات يتمُّ الاعتمادُ عليها لتدبير أو لتسيير هذه الأمور.

فحينما ننتقل من مستوى "جماعة من الناس" إلى مستوى بلد بأكمله، آنذاك تُصبح السياسة مجموعةٌ من المبادئ والتَّوجُّهات والإجراءات الواجب اتِّخاذُها من أجل تدبير وتسيير شؤون هذا البلد الداخلية منها والخارجية. إذن، السياسة هي نوعٌ من ممارسة السلطة لتدبير شؤون بلدٍ ما أو كما يُقال، لتدبير الشأن العام. سؤالان يفرضان نفسَهما علينا هنا هما : "ما هي الطرق المؤدية إلى ممارسة السلطة؟ ومَن الذي سيُمارس هذه السلطة؟

فيما يخصُّ السؤالَ الأولَ، الأغلبية الساحقة من بلدان العالم اختارت "الديمقراطية غير المباشرة" أو ما يُسمى "الديمقراطية التَّمثيلية" démocratie représentative. وفيما يخصُّ السؤالَ الثاني، الأحزاب السياسية هي التي تمارس السلطةَ، عن طريق الانتخابات، لتدبير شؤون البلاد أو لتدبير الشأن العام.

والعقول السليمة، النَّيِّرة والمستنيرة لا ترى في السياسة إلا الوسيلة التي، بواسطتها، تتمُّ خدمة الوطن والمواطنات والمواطنين، أو كما هو متَّفقٌ عليه، خدمة الصالح العام. والصالح العام يشمل البلادَ والعباد. يشمل البلادَ برا، بحرا وسماءً من أجل إعمارِها إعماراً عقلانياً وسليماً. ويشمل العبادَ الذين هم المواطنات والمواطنون. والعقول السليمة، النَّيِّرة والمستنيرة لا ترى في السياسة إلا مدلولها النَّبيل، أي المدلول أو المعنى الذي لا يمكن تسخيرُه إلا لخدمةِ الصالح العام.

والخدمات التي يمكن أن تقدِّمَها السياسةُ للبلاد والعباد، لها هدفان لا ثالثَ لهما. تقدُّمُ، ازدهار وتطوُّرُ البلاد برّا، بحرا وسماءً، وضمان كرامة عيش المواطنات والمواطنين. وهنا، السؤال الذي لا مناصَ من طرحه هو : "هل السياسة التي تدبِّر بها أحزابُنا السياسية شؤونَ البلاد والعباد تندرج في المعنى النبيل لهذه السياسة أو لمعناها الرديء والمنحط"؟

الجواب على هذا السؤال واضحٌ وضوحَ الشمس ولا غبارَ عليه. أحزابُنا السياسية، منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، ما عدا الحكومات التي دبَّرت شؤونَ البلاد مباشرةً بعد الاستقلال، انحازت، شيئاً فشيئاً، إلى المعنى الرديء والمُنحط للسياسة. 

لكن قبل الدخول في تفاصيل هذا الجواب، دعوني أدلو بالملاحظة التالية : "حمدا لله أنه منح لبلادنا نظاما سياسيا مَلَكياً. وحمداً له أن هذه الملكية ليست رمزية. بل ملكيةٌ تسود وتحكم، إضافةً إلى أن مَلِكَ البلاد هو، في نفس الوقت، أمير المؤمنين. فماذا يعني لنا، نحن المغاربة، النظام السياسي الملكي الذي، فيه، الملكُ يسود ويحكم؟ وماذا تعني لنا، نحن المغاربة، إمارةُ المؤمنين؟

إجابةً على السؤال الأول، كل الأوراش العظيمة، الكبيرة والتي، بفضلها، تقدمت البلاد اجتماعيا واقتصاديا، تندرج في السياسة الملكية. وأكتفي بذكر البعض من هذه الأوراش العظيمة : ميناء المتوسط الذي أصبح من الموانئ العالمية الكبرى، القطار السريع، الطاقات المتجددة… النجاح الباهر الدبلوماسي الذي تُحقِّقُه قضية وحدتنا الترابية…

وإجابةً على السؤال الثاني، إمارة المؤمنين تعني لنا، نحن المغاربة، أن ملكَ البلاد هو أمير جميع المؤمنين، وليس فقط المسلمين، كما يدَّعي البعض، أي أمير المؤمنين، مسلمين كانوا يهوداً أو نصارى. والأهم هو أن إمارة المؤمنين تحمي البلادَ من التَّطرُّف الديني الذي مصائبه لا تخفى على أحدٍ.

والآن، سأعود إلى عنوان هذه المقالة لأقولَ "كيف أصبحت السياسة عندنا وكيف يراها غيرُنا". وجوابا على الشقِّ الأول من السؤال، أي كيف أصبحت السياسةُ عندنا، يكفي أن نلجأ للواقع ونتركه يحكي عن مآل السياسة في هذا البلد السعيد. وهنا، سأكتفي بمثال واحد يطرح أكثرَ من سؤال.

المثال هو أن المديرية العامة للضرائب أعلنت أن جميع المواطنين الذين بذمَّتهم ضرائب، عليهم أن يؤدوها قبل نهاية السنة الحالية وإلا ستطبَّق عليهم المساطر القانونية المعمول بها في هذا الشأن. وفي هذا الصدد، أعلنت هذه المديرية العامة أن شبابيك الأبناء وخزينات الدولة ومكاتب تحصيل الضرائب ستظل مفتوحةً طيلةَ نهاية الأسبوع الماضي، أي يوم السبت 28 ويوم الأحد 29 دجنبر 2024.

كلنا شاهدنا الأفواج الهائلة من البشر الذين تقاطروا على الشبابيك المذكورة للإفلات من العقوبات التي يفرضها القانون. فماذا يعني هذا التقاطر الهائل على الشبابيك المذكورة؟ هذا التَّقاطرُ يعني، بكل وضوحٍ، أن كثيرا من المواطنين، إما يلجأون للتَّهرُّب الضريبي أو ينوون اللجوءَ إلي بعض الالتواءات للإفلات منها كليا أو جزئيا. لكن من الناحية الاجتماعية والأخلاقية ومن حيث المواطنة، هناك استنتاجات كثيرة لهذه التَّصرُّفات، لا مفرَّ منها.

وأهم هذه الاستنتاجات هو أن الأحزابَ السياسية والسياسات العمومية، بما فيها السياسات التعليمية والتَّربوية، فشلت فشلاً ذريعاً في بناء المواطن المغربي المحِب لبلده والمساهِم في تقدُّمِه وازدهارِه. وهذا هو ما يحدث عندما تُسنَدُ مأموريةِ تدبير شؤون البلاد لأحزابٍ سياسيةٍ، هي نفسُها، فاسِدة.

أما الجواب على السؤال "كيف يرى السياسةَ غيرُنا"، فيمكن تلخيصُه فيما يلي : عند غيرنا، المواطنون، عامةً، لا يرون في السياسة إلا معناها النبيل. وحتى إن كان هناك فسادٌ صادرٌ عن الأحزاب السياسية أو عن غيرها من الجهات، فالسلطة القضائية له بالمِرصاد. والسلطة القضائية مستقلَّةٌ تمام الاستقلال عن جميع السلط التَّشرعية والتنفيذية. والمواطنون، كيفما كانت انتماءاتُهم الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، متساوُون أمام القانون. وكلُّ الأحزاب السياسية تُنادي بتطبيق مبدأ "ربط المسئولية بالمُحاسبة" وتدافع عنه. أن يمتثلَ كِبارُ مسئولين سابقين أمام القضاء، مثلهم مثلَ أي مواطن عادي، فهذه هي الديمقراطية. وانتهى الكلامُ!