الكد والسعاية: مبدأ فقهي لتحقيق العدالة الأسرية
يرتكز مبدأ الكد والسعاية على الاعتراف بحق المرأة في نصيب من الثروة المشتركة المكتسبة أثناء الحياة الزوجية، سواء كانت إسهاماتها مادية أو معنوية. ويُعد هذا المبدأ انعكاسًا لمقاصد الشريعة الإسلامية الغراء التي تكرّس العدالة والمساواة وتُعلي من قيمة الجهد المبذول داخل الأسرة. وقد اعتمدت مدونة الأحوال السخصية المغربية هذا المبدأ كأساس قانوني لتنظيم الحقوق المالية بين الزوجين، مما يعكس التزام المشرع المغربي بمواكبة تطورات المجتمع مع احترام الثوابت الدينية.
أهم التعديلات في مدونة الأسرة
1. الاعتراف بعمل المرأة المنزلي كمساهمة في تنمية الثروة المشتركة:
يُعتبر هذا التعديل من أبرز المستجدات في المدونة، إذ يعترف قانونيًا بالجهود التي تبذلها المرأة داخل الأسرة، ما يمنحها الحق في نصيب عادل من الثروة المكتسبة أثناء العلاقة الزوجية.
2. حماية بيت الزوجية من الدخول في التركة:
يهدف هذا الإجراء إلى تأمين استقرار الأسرة بعد وفاة الزوج، وضمان حماية الزوجة والأبناء من خطر التشريد.
3. تقاسم الديون المشتركة بين الزوجين:
تم إقرار مبدأ تقاسم الديون المالية المشتركة بين الزوجين بشكل عادل، مما يرسخ المسؤولية المشتركة داخل الأسرة.
4. تمكين الأم الحاضنة من الولاية القانونية على أطفالها:
يعكس هذا التعديل اهتمام المدونة بحماية حقوق الأطفال وتمكين المرأة من أداء دورها كحاضنة ومسؤولة قانونية.
5. تيسير عقد الزواج للمغاربة المقيمين بالخارج:
تم تسهيل الإجراءات المتعلقة بعقود الزواج للمغاربة بالخارج، مع مراعاة الضوابط الشرعية، خاصة في حال تعذر حضور الشهود المسلمين.
دور المغرب الرائد في الاجتهاد الشرعي
برز المغرب كرائد في الاجتهاد الشرعي الوسطي، بقيادة مؤسسة إمارة المؤمنين؛ حيث اعتمد المجلس العلمي الأعلى على قاعدة “لن أُحلل حرامًا ولن أُحرّم حلالًا”، لضمان توافق التعديلات مع أحكام الشريعة الإسلامية. وأكد المجلس على رفضه لبعض المقترحات التي تتعارض مع النصوص القطعية، مثل إلغاء قاعدة التعصيب أو استعمال الخبرة الجينية لإثبات النسب. هذا النهج المتوازن يعكس التزام المغرب بتطوير تشريعات عصرية تراعي التطورات الاجتماعية مع الحفاظ على الهوية الإسلامية.
كما يُعد المغرب نموذجًا للدول الإسلامية الأخرى في كيفية التعامل مع قضايا الأسرة. فقد أظهرت مراجعات المدونة مرونة فقهية وقدرة على إيجاد حلول وسط بين مقتضيات العصر ومتطلبات الشرع، مما يعزز مكانة المغرب كدولة رائدة في قضايا التجديد الدينيى في الوطن العربي والعالم الإسلامي .
وفي هذا السياق فقد شكل
كتاب الدكتور محمد بشاري “حق الكد والسعاية” الذي صدر حديثا مساهمة نوعية في تأصيل هذا المفهوم الفقهي؛ بحيث قدم الكتاب مجموعة من التوصيات ومن أبرزها:
• الاعتراف بحق المرأة في الكد والسعاية:
يعزز الكتاب مفهوم الشراكة العادلة داخل الأسرة، موضحًا أن الجهد الذي تبذله المرأة يُعد إسهامًا فعليًا في تنمية الثروة المشتركة.
• صياغة ضمانات قانونية واضحة:
يبرز الكتاب أهمية وضع أطر قانونية تكفل حقوق المرأة عند انتهاء العلاقة الزوجية، سواء بالطلاق أو الوفاة.
• تعزيز المسؤولية المشتركة بين الزوجين:
شدد الكتاب على ضرورة تقاسم الأعباء المالية بين الطرفين بشكل عادل ومتوازن.
• إعادة النظر في القواعد التقليدية:
دعا الكتاب إلى تحديث القوانين التقليدية المتعلقة بالأسرة، بما ينسجم مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، دون المساس بالثوابت الشرعية.
وفي سياق تعزيز حقوق المرأة، أشاد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بمبدأ الكد والسعاية، داعيًا إلى إحيائه من التراث الإسلامي. واعتبر الشيخ الطيب أن هذا المبدأ يمثل رؤية فقهية ناضجة لحماية حقوق المرأة، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية التي دفعت بالنساء إلى المشاركة في تنمية الثروة الأسرية. وأكد الطيب أن الشريعة الإسلامية غنية بمثل هذه المبادئ، التي تعكس عمق التراث الإسلامي وحرصه على حفظ كرامة المرأة وحقوقها. ودعا إلى إعادة النظر في التشريعات الأسرية بما يضمن الإنصاف بين الزوجين، مؤكدًا أن مبدأ الكد والسعاية يُعد نموذجًا للاجتهاد الشرعي الذي يوازن بين الثوابت والمرونة.
أهمية هذه التعديلات وتأثيرها
تشكل مراجعات مدونة الأحوال الشخصية المغربية خطوةً نوعية نحو تحقيق العدالة الاجتماعية داخل الأسرة، حيث تبرز التعديلات أهمية الاعتراف بجهود المرأة وتقدير إسهاماتها في بناء الأسرة. كما تُعد هذه المراجعات نموذجًا ملهمًا للدول الإسلامية الأخرى، التي يمكنها الاستفادة من تجربة المغرب في تطوير تشريعات أسرية توازن بين متطلبات العصر وأحكام الشريعة.
خاتاما، تُبرز التعديلات على مدونة الأحوال الشخصية المغربية وبتوجيهات سامية من جلالة الملك محمد السادس دور الاجتهاد الشرعي في تقديم حلول مرنة وعادلة لقضايا الأسرة، مع الحفاظ على الثوابت الشرعية. ويُعد مبدأ الكد والسعاية نموذجًا رائدًا يعكس روح الشريعة الإسلامية في تحقيق العدالة والمساواة. هذه الإصلاحات تمثل التزامًا واضحًا من المغرب بتطوير قوانينه بما يخدم مصلحة الأسرة والمجتمع، ويضعه في مقدمة الدول التي تسعى لتحقيق توازن مثالي بين الأصالة والمعاصرة.