كتب برهان غليون ، رئيس المؤتمر الوطني السوري لمدة عام بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 ، في صفحته على فيسبوك يقول بأن هيئة تحرير الشام ليست الجهة التي يمكنها أن تصنع الديمقراطية، ودعا الديمقراطيين إلى تنظيم صفوفهم، وقال إن السلطة لا يمكنها أن تصنع الديمقراطية.
غليون مفكر سوري محترم ـ يعيش في فرنسا ـ وفي جميع كتاباته منذ السبعينات ظل ينتقد النخبة السياسية في العالم العربي بمن فيهم الديمقراطيون، وقد قرأت جميع كتبه منذ سنوات طوال وأعرف أسلوب تفكيره، ولكن المثقف العربي العلماني دائما ما ينقلب على نفسه كلما شم رائحة الدين أو رأى متدينين في السلطة.
ما هو تعريف غليون للديمقراطيين في سوريا أو في العالم العربي؟ هل هم كل من ينطق بكلمة الديمقراطية ويخرج إلى الشارع يرفع بها صوته؟ أم من يدبجها في برامجه الانتخابية؟ هل يستطيع غليون أن يفرز بين من يسمون الديمقراطيين في سوريا بين من كان مع النظام السابق وبين غيرهم؟ ألا يعرف بأن الديمقراطية في العالم العربي شعار يجمع المستبدين والديمقراطيين والعلمانيين المتطرفين والطائفيين؟ هل يجهل غليون أن دعاة الديقراطية في العالم العربي انقلبوا عشرات المرات على الديمقراطية؟ ألم يرفع جميع الذين قاموا بالانقلابات شعار الديمقراطية والحرية والتقدم؟ لماذا تنكروا لها بعد ذلك؟ من يضمن أن لا ينقلب اليوم دعاة الديمقراطية على كل شيء إذا أعطيت لهم السلطة؟
ثم أين يوجد ذلك المنطق الذي يقول بأن هيئة تحرير الشام قاتلت سنوات طويلة ودفعت حياة أبنائها وعائلاتها ثمنا للثورة وأسقطت النظام كي تقدم الثورة هدية مجانبة إلى دعاة الديمقراطية الذين كانوا في الفنادق؟ وهل يريد السوريون اليوم إعادة بناء بلدهم المدمر والتقاط الأنفاس بعد عقود من الرعب والإرهاب وإعادة تنظيم المجتمع ومحاربة المفسدين وتطهير المجتمع منهم لكي لا يتكرر ما حصل، أم يريدون الديمقراطية فورا؟ ألا تحتاج الديمقراطية أولا إلى تنشئة؟ هل قامت الديمقراطية في فرنسا مثلا مباشرة بعد الثورة الفرنسية وسقوط النظام، أي في الأسبوع الموالي، أم تطلب ذلك عقودا من الزمن؟ كيف تنجح الديمقراطية في سوريا في سبعة أيام وما زال هناك من يتربص بالثورة ومن ينتظر دوره ومن يمد يده إلى جهات خارجية؟ هل المهم هو تحصين الثورة أولا أم بدء الهرج الديمقراطي الذي نعرفه؟
برهان غليون للأسف رغم كتاباته النقدية الجيدة إلا أنه يجهل طبيعة المجتمعات العربية وطبيعة النخبة السياسية فيها، فقد ظل في سائر كتاباته يهاجم ارتزاق النخبة وانتهازيتها وخيانة الديمقراطيين وشرعنة الاستبداد باسم الديمقراطية، لكنه اليوم يتنكر لهذه المواقف لمجرد أن هيئة تحرير الشام هي التي صنعت الثورة.
لكن لماذا لا يمكن للهيئة صناعة الديمقراطية؟ هل يقرأ غليون في اللوح المحفوظ أم ينطلق فقط من مرجعية الهيئة ليبني موقفه؟ موقف غليون هو أن “الديمقراطيين” لا يثقون في أصحاب المرجعية الدينية، لكن لماذا يطالب الهيئة بالثقة في الديمقراطيين؟ أليس الواجب أن تكون الثقة متبادلة؟ أليس من شروط الديمقراطية تبادل الثقة بين مختلف الأطراف، فلماذا التشكيك في الهيئة منذ البداية؟
لا أدافع عن الهيئة، ولكنني أنطلق من الواقع، والواقع علمنا أن دعاة الديمقراطية هم من انقلبوا عليها في العالم العربي، وأن الانتخابات الديقراطية لم تصنع لنا دولة ولا تنمية ولا كرامة، لأنه لا توجد قناعة بالديمقراطية، ولدى الشعوب العربية سبعون سنة من التجربة منذ حصلت على الاستقلال، فهل نطالبها بالمغامرة دون إعداد؟ هل يجهل برهان غليون أن دعاة الديمقراطية هم أول من انقلب على التغيير في الدول العربية بعد الربيع العربي؟ إذا كان يريد أمثلة نقدم له هذه الحالة ليفسرها لنا: لماذا كان الديمقراطيون يصرخون من أجل الديمقراطية بعد الربيع الذي منح الحكم لتيارات إسلامية ثم سكتوا بعد سقوطها ووضعوا أيديهم في يد الاستبداد؟
برهان غليون يقول بأن السلطة لا تصنع الديمقراطية، وهذه فكرة حالمة للأسف، أليست الديمقراطية هي التداول على السلطة؟ ألا يتحول الحزب “الديمقراطي” إلى سلطة بعد الانتخابات الديمقراطية؟ فكيف نفك الارتباط بين السلطة والديمقراطية؟
غليون يقول بأن الديمقراطية يصنعها الديمقراطيون، وهذا شعار مضحك لأنه تحول إلى تصنيف بيولوجي. كيف نعرف الديمقراطي من المستبد؟ هل نشخص عليهم في قاعة عمليات؟ الديمقراطية تربية أولا، لا فلسفة، والتجارب البشرية بينت لنا أن الشيوعي قد يكون مستبدا، والاشتراكي مستبدا، والعلماني مستبدا، والإسلامي مستبدا، والديمقراطية مستبدا، وكم من حاكم ظل يلهج بكلمة الديمقراطية أربعين عاما وهو يضع رجله على رؤوس المواطنين حتى خرج برازهم من أدبارهم.
كان على برهان غليون أن يدعو إلى تحصين الثورة أولا، والالتفاف على من صنعها، وتطهير المجتمع من بقايا النظام السابق، ووضع دستور جديد، وتعيين هيئة لديها الصلاحيات الدستورية والتنفيذية معا لمراقبة سير النظام الجديد، فقد تكون لديها صلاحيات دستورية، لكنها لا تكفي بل لا تعني شيئا على الإطلاق، فكم من دستور تم تمزيقه ومورس به الاستبداد في العالم العربي، تبقى الصلاحيات التنفيذية، وهنا وقف حمار الشيخ في العقبة.
ولكي ينهض الحمار ويمشي لا بد من الثقة، لأن الشرط السياسي والنفسي في المجتمعات العربية شرط أساسي يسبق الشروط القانونية، الشروط القانونية يمكن وضعها في 24 ساعة، لكن الشروط الأخرى تتطلب 24 سنة أو أكثر.
كان برهان غليون يستعمل دائما عبارة يكررها باستمرار، هي “الانسداد”.