فن وإعلام

الثورة المعلوماتية والحاجة إلى التربية الإعلامية (2)

عبد العزيز المنتاج

2 ـ التربية الإعلامية المسار التاريخي والتحول

ظهرت التربية الإعلامية في بداية القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد ارتبط ذلك ببداية استعمال الأفلام السينمائية كوسائل تعليمية، وفي سنة 1933 ظهر كتاب "الثقافة والبيئة: تدريب التوعية النافذة" داعيا إلى ضرورة تنمية الوعي الناقد معتمدًا المواد الصحفية والإعلانات كنماذج، حيث اعتبر أول محاولة لتدريس وسائل الإعلام في المدارس، وقد كان الهدف من تدريس التربية الإعلامية حينها تشجيع الطلبة والمتعلمين على التمييز والمقاومة وتنمية الحكم والذوق الصحيحين، من خلال استيعابهم للقيم الصحيحة والثقافة الراقية مقابل القيم التجارية والاستهلاكية لوسائل الإعلام.

بعد ذلك اعتمدت التربية الإعلامية في الاتحاد السوفيتي من خلال مشروع "سينما وشباب" في خطوة للحد من التأثيرات الجانبية لوسائل الإعلام، لكن وبداية من الخمسينيات بدأ المصطلح ينتشر في كل الدول المتقدمة مثل كندا وفنلندا واسكتلندا والنرويج واسبانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، وإن ظل تدريس التربية الإعلامية في هذه الدول اختياريا. لكن ومع بداية الستينيات بدأت تظهر تجارب أخرى في انكلترا وفرنسا وذلك ارتباطا بانتشار السينما والتلفزيون وبداية سيادة عصر الصورة، وقد جاءت هذه التجارب للحد من تأثيرات الإعلام الفاسدة على الشباب، خاصة في ظل صراع الإيديولوجيات التي كانت سائدة حينها.

في نهاية الستينيات ظهرت بكندا وأمریکا جمعيات لمعلمي التربية الإعلامية، حيث تم إدماجها ضمن برامج التدريس بالجامعات الكندية والأمريكية، ونظرا لأهمية الموضوع فقد سارعت اليونسكو بداية من السبعينيات إلى جعل التربية الإعلامية إحدى أهم أولوياتها، فتم إدراجها في المناهج الدراسية لوزارة التعليم الفرنسية، وقد رافق هذا التطور اهتمام بالتنظير لتبرز حينها مفاهيم مرتبطة بالموضوع مثل نظرية الشاشة والتواصل التربوي.

ويمكننا أن نسجل من خلال تبعنا لهذا المسار عدة ملاحظات أبرزها أن مصطلح التربية الإعلامية بدأ كمشروع مرتبط باستخدام وسائل الإعلام في التعليم وانتهي إلى كونها، أي التربية الإعلامية، تعليم للإعلام، كما نسجل أن التربية الإعلامية قد ظهرت في أول الأمر كمشروع دفاع ومقاومة وحماية لكنها مع الثورة الرقمية أصحبت مشروع تكوين وتمكين وإنتاج، وأن الأمر في البداية كان مقتصرا على الرسائل والوسائل الإعلامية والآن صار مشتملا، إضافة إلى ذلك، على تلقي المعلومات وامتلاك تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة، كما نسجل أخيرا عدم اهتمام الدول النامية ومنها دول العالم العربي بالتربية الإعلامية، رغم أن اعتمادها في العالم المتقدم قد بدأ مبكرا إيمانا منه بأهميتها، فمتى تنتبه هذه الدول لهذا الأمر، أم أن شأن شبابها أمر لا يعنيها ولا يهمها أن تتركه لتأثيرات الإعلام الخطيرة، خاصة في ظل هذا التدفق الإعلامي والمعلوماتي اللامحدود واللامتناهي. 

3 ـ التربية الإعلامية: الأهمية والأهداف والغايات

3 ـ 1 ـ أهمية التربية الإعلامية

لقد كان من نتائج الثورة الرقمية ظهور إعلام جديد، قائم على التفاعل وسعة الانتشار وسهولة البلوغ والاستعمال، ما أنتح مجتمعات شبكية وفضاءات افتراضية لا متناهية، جعلت الفرد يسبح في سيل متدفق من المعلومات والصور بلا رقيب أو وسيط، وهذا ما زاد من مخاطر وسائل الإعلام على المتلقين، وخاصة الأطفال الذين قد يجدوا أنفسهم عرضة للتضليل الإعلامي والأخبار الزائفة، وضحايا لإيديولوجيات العنف والتطرف والإرهاب والإباحية والإعلانات الاستهلاكية.

وللحد من هذه المخاطر أصبحت التربية الإعلامية ضرورة ملحة لحماية الأجيال مما يتهددها من مخاطر وسائل الإعلام، لأنها تعمل على منح الأطفال والشباب مناعة ثقافية وفكرية، وأسلحة نقدية تجعلهم يميزون بين الرسائل والمضامين الإعلامية المفيدة والهدامة، بالتعرف على طبيعتها ومحتوياتها وغاياتها وخلفياتها. فالتربية الإعلامية تحمي المتلقي من التعرض لعملية الاستقطاب الإيديولوجي وغسل الدماغ، وبالتالي تجعله ينمي شخصيته على أسس متينة قادرة على الحكم على الأشياء أحكاما صحيحة بعدم تصديق كل ما يتعرض له من أخبار ومعلومات، وبالتالي أكثر تمسكا بقناعاته وما يميزه عقديا ودينيا ووطنيا.

فالفوضى التي يشهدها المجال الإعلامي اليوم، والتدفق السائل للمعلومات والأخبار، يحتاج إلى مواطن يمتلك دفاعا ذاتيا محكما، يجعله قادراً على رد ما يستهدف قناعاته الشخصية والمجتمعية. فالتربية الإعلامية بالإضافة إلى قدرتها على التصدي لتحقيق هذه الأهداف، تبقى تأكيدا على ضمان حرية التعبير وحرية الوصول إلى المعلومات، وتشجيع على امتلاك أساليب التعامل مع التطور التكنولوجي لوسائل الإعلام والاتصال والاستفادة منها ومما تنشره من معارف ومعلومات مفيدة.

لقد أكدت ندوة اشبيلية سنة 2002 حول التربية الإعلامية على أهميتها لأنها تمكن الجمهور من اختيار الوسائل الإعلامية المناسبة والجيدة، مع إمكانية تكوين آراء نقدية حول مضامينها الإعلامية، وهذا لن يتأتى إلا بالوعي بتأثير وسائل الإعلام، وفهم كيف تتم عملية الاتصال، والتمكن من تحليل الرسائل الإعلامية والتفكير فيها تفكيرا نقدياً مبنيا على الشك، لكشف من وراءها؟ وما الغاية منها؟ والخط التحريري الذي يحكمها.

فبالإضافة إلى أهمية التربية الإعلامية للشباب لتمكينهم من الاستعمال الآمن لوسائل الإعلام، فإنها كما يقولCarlsson” " فإنها تعمل على عدم حرمان المتلقي من استعمال وسائل الإعلام الجديد باعتباره مظهرا من مظاهر الحضارة والثقافة في المجتمع، ناهيك عن مبررات أخرى تظهر أهمية التربية الإعلامية مثل تعزيز الثقة بالنفس والشخصية، وتعزيز الدافعية للتعلم وتنمية مهارات التفكير النقدي.

3 ـ 2 ـ: أهــــداف التربية الإعلامية

تهدف التربية الإعلامية كما أسلفنا إلى تكوين الوعي الناقد لدى متلقي الرسائل الإعلامية، وذلك لتمكينه من بناء آراء وأحكام مستقلة بشأن محتويات ومضامين الرسائل الإعلامية، وهذا لن يتحقق إلا بتكوين وامتلاك ثقافة إعلامية تؤهله لفهم طبيعة وسائل الإعلام وأنواعها وكيفية إنتاج رسائلها والأشياء المتحكمة فيها، كالاستقلالية وطبيعة الوسيلة والخط التحريري.

تختلف أهداف التربية الإعلامية حسب طبيعة المتلقي، فإذا كان طفلا فإن التربية الإعلامية تعمل على حمايته من الآثار السلبية الناجمة عن تعرضه لوسائل الإعلام، بمعنى أنها وقاية للنشء والشباب بتمكينهم من آليات واستراتيجيات دفاعية تساعدهم على انتقاء المحتويات الإعلامية المفيدة لهم، ويحدد "Massey" الهدف من التربية الإعلامية في "جعل الأفراد مشاركين نشيطين في عملية الاتصال، وفي إيجاد المعنى بدلا من أن يكونوا كقطع شطرنج في يد القائمين به".

وقد حدد "Potter" أهداف التربية الإعلامية فيما يلي:

- زيادة الفهم لجوانب الإعلام المتعددة.

- زيادة التحكم في عملية تفسير وتحليل الرسائل الإعلامية بأشكالها المختلفة.

- تعزیز وزيادة التقدير السليم للمضامين الإعلامية.

- تعليم الأفراد تقييم وتقويم المضامين الإعلامية وإنتاجها.

- اطلاع الأفراد والرأي العام على كيفية اشتغال وسائل الإعلام وخلفيات رسائلها وتأثيراتها على الفرد والمجتمع.

أما مؤتمر فينا 1999 فلخص أهداف التربية الإعلامية في:

- التعريف بمصادر الإعلامية ومقاصدها.

- فهم الرسائل الإعلامية وتفسيرها وتحليلها وكشف ما تحمله من قيم

- تحليل وتقديم الآراء النقدية للمضامين الإعلامية.

أما کارلسون فلخص أهداف التربية الإعلامية، كما جاء في مؤتمر باريس عام 2007 في كونها تعطي مدخلا للاستفادة من جميع أنواع وسائل الإعلام، وتعلم وتطور مهارات التحليل الناقد للمضامين، سواء كانت إخبارية أو ترفيهية، وذلك لتعزيز قدرة المتلقي وجعله مستخدما نشيطا.

3 ـ 3 ـ غايات التربية الإعلامية

يفترض في طلاب التربية الإعلامية أن يتمكنوا من مهارات وسلوكات تساعدهم على تحقيق أهدافها، ومن السلوكات المتوقعة:  

- استخدام وسائل الإعلام بحكمة وفعالية.

- امتلاك التفكير الناقد عند تقييم الرسائل الإعلامية.

- التحقق من مصداقية المعلومة من مصادر مختلفة.

- الفهم لسلطة الصورة والتمكين من كيفية قراءتها.

- إدراك التنوع الثقافي وتقدير الاختلاف في وجهات النظر.

- التعبير عن الرأي بوضوح وثقة في النفس.

- إدراك تأثيرات وسائل الإعلام على المعتقدات والمواقف والقيم المواقف والقيم وأنماط السلوك.

بالإضافة إلى كونها تسعى إلى تدعيم :

- الشك في كل ما تقدمه وسائل الإعلام وعدم الاقتناع به بسهولة.

- البحث عما وراء الرسالة الإعلامية وما تحاول تمريره.

- إدراك مخاطر الرسائل الإعلامية والتعامل بحذر عند النشر احتراما للخصوصيات وحقوق الآخرين.

- ربط المضمون الإعلامي بالوسيلة الإعلامية وبالجهة المالكة أو المنتجة لها. وتحليل القاموس المستعمل في المضمون لفهم الخط التحريري للوسيلة الإعلامية.

أما مميزات التربية الإعلامية فهي تربية مضادة، دفاعية ناقدة ومبدعة مرتبطة بحياة الأفراد، تمكنهم من امتلاك مهارات واستعمالها في حياتهم اليومية، خاصة أنهم اليوم أصبحوا عرضة لكم هائل من الرسائل الإعلامية وفي كل مكان، سواء في البيت أو الشارع أو السيارة أو الهاتف، وإحساس الطفل أو الشباب بامتلاكه لمهارة فهم واختيار الرسائل الإعلامية المناسبة يجعله أكثر دافعية للبحث والاكتشاف والتعلم، ما يعد تقوية للشخصية وبناء الذات بناء رصينا قد ينعكس على ملكة تفكيره في كل مناحي الحياة. وبالتالي القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة ومواجهة ما يعترضه من مشاكل في حياته.

يتبع