وبالعودة إلى مجريات الجلسة التي انعقدت والقرار نفسه، فإنه يعكس ثنائية مرتبطة بطرفي الصراع الأساسيين: المغرب الذي كرس تفوقاً سياسياً ملحوظاً، بالمقابل عزلة سياسية للجزائر ازدادت حدتها مع مسار صدور هذا القرار ومضامينه التي شكلت إعلان إفلاس مجلس لكل الطروحات التي ظلت ترافع من أجلها الجزائر وأذرعها. وتجلت هذه الثنائية المغربية-الجزائرية في ما يلي:
1- العزلة الجزائرية:
ما قبل جلسة التصويت، حاولت الجزائر التأثير في مضامين المسودة التي كانت قد أعدتها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث ضغطت من أجل تضمين القرار نقطتين تتعلقان:
- الأولى بتوسيع مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان. فقد حاولت الجزائر الضغط من أجل إعادة طرح هذا المقترح وتضمينه مجدداً بالقرار، متناسية أن الولايات المتحدة الأمريكية والهيئات الأممية تعرف جيداً سجل الجزائر الأسود في مجال حقوق الإنسان، الذي يعد سجلاً أسود يتمثل في خنق المعارضة والمحاكمات الصورية، مطاردة النشطاء، منع التظاهرات المطالبة بالحرية والديمقراطية، واعتقال المرشحين السابقين للرئاسة، وحل المنظمات الحقوقية.. وغيرها من الانتهاكات الحقوقية الجسيمة التي تُعد جزءاً من سياسة الدولة. بالتالي، لم يكن لمقترحها أن يحظى بأي تعاطي جدي وهي بهذا السجل، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لها أن تقبل بهذا المقترح، ومسؤولوها سبق لهم أن زاروا المغرب، كما زاروا الأقاليم الجنوبية وعاينوا تطور الوضع الحقوقي بالمنطقة، لهذا لم يكن لهذا المقترح أن يؤخذ به ولا أن يكون موضوع أي نقاش، ليس فقط لعدم جديته أو لكون الواقع بالصحراء قد تجاوزه، لكن بالأساس لكون الجهة التي تقدمت به مصنفة ضمن الدول الأكثر رعباً.
- المقترح الثاني الجزائري الذي كان يريد أن يدفع بالمسودة وبعدها بالقرار للعودة إلى الوراء من خلال الإشارة إلى مرحلة ما قبل 2007، وتضمين القرارات السابقة عن هذه المرحلة التي كانت تشير إلى "استفتاء تقرير المصير" كحل من بين الحلول، متناسية أن فكرة "الاستفتاء" قد تم إقبارها منذ السنة التي تقدم فيها المغرب بمقترح الحكم الذاتي.
- لقد كان هدف الدولة الجزائرية من محاولة إعادة طرح هذا المقترح هو العودة بالملف سياسياً للوراء، وإيجاد مبرر لعرقلة المسار الذي على أساسه ديماستورا مطالب بالتحرك وفقه، بحيث كانت ستدعي أن مجلس الأمن قد عاد لمرحلة ما قبل الحكم الذاتي وبالتالي عودة "الاستفتاء" إلى الواجهة.
الجزائر التي كانت تعتقد بأنها قد أقنعت صاحبة القلم بمقترحاتها غير المتناسقة مع تطور الملف أممياً، تلقت صدمة بعد طرح النسخة إلى التصويت دون أن تتضمن ما تقدمت به في الكواليس للولايات المتحدة الأمريكية، تجلت ملامح الصدمة في كلمة مندوبها الذي أشار بحنق كبير إلى هذه النقطة، متناسياً بشكل يعكس "غباء" الدبلوماسية الجزائرية الموقف الأمريكي من مغربية الصحراء منذ سنة 2020 إلى الآن، وأن التزام الولايات المتحدة الأمريكية بدعم المقترح المغربي هو التزام سيادي وسياسي غير مرتبط بهذه الإدارة أو تلك.
الحدث الذي عاشه المجلس والذي عكس عزلة إضافية للجزائر داخل مجلس الأمن، هو نتائج التصويت، حيث صوتت 12 دولة لصالح القرار، مما دفعها إلى الإرباك، الذي برز من خلال اتخاذها موقفاً غريباً عن المجلس واللوائح المنظمة لعملية التصويت على القرارات الصادرة عنه، التي تتوزع بين "نعم"، "لا" و"الامتناع".
المبعوث الجزائري وجد نفسه في موقف محرج بعد تقديم المسودة كما هي دون تضمين مقترحاتها المتجاوزة. وبعد تصويت روسيا التي اختارت "الامتناع" كما درجت على ذلك في نهج أصبح تقليداً روسياً يتعلق بملف الصحراء، يتجلى في تسجيل تحفظها على المنهجية التي يتم بها إعداد القرار، لا بمضمونه أو بموقف سلبي من العملية السياسية التي تعلن عن دعم مسارها على أساس قرارات المجلس. فقد كانت الجزائر تعول على الدعم الروسي، الذي اختار الحفاظ على موقفه الذي يتفهمه المغرب، لتجد الجزائر نفسها في وضع من العزلة السياسية والدبلوماسية، وفي موقع النظام المهزوم الذي كان يتصور أن تواجده كعضو غير دائم بالمجلس سيمكنه من التأثير في مسار العملية السياسية والعودة بها للوراء، ما قبل سنة 2006. فتكون جلسة 31 أكتوبر 2024 ليست فقط تعبيراً عن عزلة سياسية، بل عن هزيمة واضحة لمختلف الطروحات التي ظلت الدبلوماسية الجزائرية تختبئ من وراءها، وتأكدت مختلف الدول على كون النظام الجزائري هو المعني المباشر بهذا الملف، وأنه المسؤول عن عرقلة الحل.
لقد تلقت الجزائر صفعة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تلتفت لمقترحاتها المتجاوزة، وصفعة ثانية من روسيا عندما أخذت مسافة من التحركات الجزائرية التي اختارت التصويت بالامتناع، وترك المندوب الجزائري في موقف مرتبك، يُعبر عن عزلة الدولة الجزائرية أممياً، ليس فقط عن خصومها أو من يقفون في النقيض معها دولياً، بل أيضاً عمن كانت تعتبرهم حلفاءها.
2- التفوق المغربي:
القرار الذي أصدره مجلس الأمن، إذا كان قد عكس عزلة الطرح والنظام الجزائريين، فهو بالمقابل أكد على التفوق المغربي دبلوماسياً وسياسياً، تجلى ذلك في مضمون القرار وكلمات جل مبعوثي الدول.
- من حيث مضمون القرار: فقد تضمن هذا القرار عدة مقتضيات تعكس تفوقاً مغربياً يتجلى في تكريس مبادرة الحكم الذاتي كخيار وحيد لطي الملف، على أساسه طالب المجلس ستافان ديماستورا بإعادة إطلاق العملية السياسية من جديد، من حيث انتهت جلسات جنيف في شوطيها، بموائدها الأربع، وطرفيها الأساسيين المغرب والجزائر، بحيث تم تحميل هذه الأخيرة مسؤوليتها تجاه المسار السياسي، وأعيد مطالبتها بضرورة التعاطي إيجابياً مع المبعوث الأممي ومع محددات الحل السياسي. فالقرار بهذا المعنى كرس تفوقاً للمبادرة المغربية وجعلها المرجع الأساس في هذا الملف، مستندة على كل التراكم الذي تم تحقيقه، بما فيه افتتاح القنصليات، والاعتراف المتزايد بمغربية الصحراء، وآخره الموقف الفرنسي، بالإضافة إلى مبادرة الحكم الذاتي كأساس وحيد للحل، بحيث وصلت داخل الاتحاد الأوروبي عدد الدول المعترفة بهذه المبادرة إلى 20 دولة أوروبية. كل هذه التطورات المصاحبة للملف تساهم في تكريس هذا التفوق المغربي وتجعل من الطرح الذي تم تقديمه كبديل عن "الاستفتاء" الأساس الوحيد لطي النزاع.
- القرار أعاد التشديد على ربط السلم والأمن بهذا الملف، خاصة مع استمرار التهديدات الإرهابية القادمة من مخيمات تندوف، وهي التهديدات التي تزداد خطورتها مع قيام مليشيات البوليساريو بتهديد عناصر بعثة المينورسو شرق الجدار العازل وعرقلة تحركها ضماناً للأمن بالمنطقة. هذا التهديد الذي أصبحت مليشيات البوليساريو، في ظل إشارة القرار إلى تزايد حجمها، مع استمرار إعلان البوليساريو عن خروجها من اتفاق وقف إطلاق النار، وهو وضع يضع الدولة الجزائرية أمام مسؤولياتها تجاه المنطقة والأمم المتحدة، مادام أن هذه التهديدات تأتي من الداخل الجزائري ومن أراضيها.
- كلمات مبعوثي الدول بعد التصويت على القرار اتجهت كلها إلى دعم الرؤية المغربية التي على أساسها سيتم طي النزاع، وهي الرؤية التي تعتمد على مقاربة واضحة تستجيب لرغبة هذه الدول في إنهاء الملف على أساس قانوني وسياسي يستجيب لميثاق الأمم المتحدة. وقد كان لافتاً في هذه الكلمات ما أعاد التأكيد عليه المبعوث الفرنسي بالمجلس، الذي ذكر من جديد بموقف بلاده والتزامها بالدفاع عن مغربية الصحراء بمجلس الأمن، وأمام المبعوث الجزائري، لتكون فرنسا قد اختارت مستقبلها إلى جانب المغرب وشراكتها معه.
- القرار بهذه المضامين يعكس كذلك تفوقاً أمنياً مغربياً، بحيث أكد القرار على التعاطي الإيجابي للجيش المغربي مع بعثة المينورسو ومساهمته في تفكيك الألغام حفاظاً على السلم وحياة المدنيين، وهو بذلك يكون منخرطاً بشكل إيجابي وفق اتفاق وقف إطلاق النار وبمرافقة بعثة المينورسو ومكونها العسكري في الحفاظ على السلم، ولعب دور أساسي وكبير في وقف إطلاق النار وضمان عمل البعثة في اتساق مع مهامها الأمنية والعسكرية.
التفوق السياسي المغربي على الجزائر بات أمر واقع مُعاش، مرتبط بالملف من مختلف حيثياته، خاصة الرؤية التي أصبحت اليوم الأمم المتحدة مقتنعة بها، رفقة الغالبية المطلقة للدول الأعضاء بالأمم المتحدة، مما ساهم في إقرار مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد لطي الملف. ليكون المغرب، من خلال قرار 2756، قد حقق قفزة جديدة على مستوى طيه، فبات من المؤكد قرب إنهاءه وفرض الحل على أساس المبادرة المغربية ومعاييرها السياسية.