جاء في "الوثيقة السياسية" اقتراح " تثمين مهنة التعليم والتدريس وتحصينها بأنظمة تشريعية وتنظيمية وأخلاقية؛ تولي أطر التربية والتعليم مكانة خاصة اختيارا وتكوينا وتوظيفا وترقية وتحفيزا وتقويما وتوفيرا لظروف العمل الملائمة بما يحقق الوضع الاعتباري الملائم لمختلف رجال التعليم" .ص175. إن هذا الموقف يتنافى كلية مع المشروع السياسي للجماعة كما حدده مرشدها وجعل من مقوماته "كنْس" فئة من نساء ورجال التعليم كما تُكنس القاذورات، أي طردهم من وظائفهم (ماذا يجد الإسلاميون عندما يصلون إلى الحكم ؟ من بين ما يجدون طبقات وطوائف وشرائح من المتعلمين ذوي الكفاءات ؛ هم حصيلة جهود مَنْ وَلَد ، ومن رعى ، ومن علم ، من أسرة ومدرسة وجامعة . . وهم خليط يشتمل على ذوي المروءات والكفاءة ، وذوي الكفاءة بلا مروءة ، وذوي الدين والمروءة والكفاءة ، والمتنصلين من الدين المنافقين . فماذا هم فاعلون الإسلاميون بهذه الحصيلة التي إما تستصلح فتكون نواة لتعليم تائب وإدارة متطهرة ، وإما تعد الحقائب . . أما وفي التركة حثالة ، للتعليم منها نصيب ، فإن الحثالات تكنس طفيليات جرثومية في جسم المحموم ، ما تفعل بالمحموم غير التلطف به والرفق ، ومن الرفق به عزل الجراثيم )( ص 175 ، 181 حوار مع الفضلاء الديمقراطيين). هذا المصير ذاته سيلقاه الموظفون في الإدارات العمومية إن هم رفضوا اعتناق عقائد الجماعة وإيديولوجيتها قبل "التمكّن": ( وبالجملة ، فإن من أُعِدَّ لإدارة الدولة اللادينية ، ورُبي تربية خلقية وفكرية ملائمة لطبيعتها ، لا يصلح لشيء من أمر الدولة الإسلامية . فإنها ( أي الدولة الإسلامية) تتطلب وتقتضي أن يكون كل أجزاء حياتها الاجتماعية ، وجميع مقومات بنيتها الإدارية من الرعية والمنتخبين والنواب والموظفين والقضاة والحكام وقواد العساكر والوزراء والسفراء ونُظار مختلِفِ الدوائر والمصالح ، من الطراز الخاص والمنهاج الفذ المبتكر). ويُذَكِّر مرشد الجماعة جميع الفضلاء وينبههم كالتالي ( قلت : هذه عبارة أمسكوها أيها الفضلاء ، ولعل صياغتها تُناسب مدارككم )(ص 534 ،535 العدل). هذا ما تُعِدّه الجماعة من قوانين وإجراءات عقابية في حق كل الأطر والموظفين والأمنيين والقضاة وغيرهم ممن لم يعتنقوا إيديولوجية الجماعة وينخرطوا في صفوفها ويدعموا مشروعها السياسي. فكيف تستقيم دعوتها إلى "دولة ديمقراطية" وهي تنشد وتسعى لإقامة دولة دينية لا مكان فيها لمن يخالف إيديولوجيتها وعلى رأسهم العلمانيين واليساريين والاشتراكيين؟
قطع الأطراف وسمل العيون.
لا شك أن الدائرة السياسية تتستر على أنماط العقاب الذي تدخره الجماعة للأطراف التي تعارض مشروعها، خاصة اليساريين والاشتراكيين، عندما تسيطر على الحكم. بحيث ستتخلى الجماعة عن كل مفاهيم المدنية والديمقراطية والحقوقية التي تخاطب بها الأحزاب والنقابات، لتستعمل، في المقابل لغة ومفاهيم وأساليب تمتح معانيها من قاموس الاستبداد الديني الهمجي. ذلك أن الشيخ ياسين توعّد اليساريين والاشتراكيين بقتلهم شرّ قتْلة ولا يقبل منهم توبة ولا استغفارا. وحجته في ذلك أنهم ينتمون لأحزاب يعتبرها " رائدة الكفر والفسوق"( كانت شدة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعداء الله بعد أن ثبتت أركان دولته في المدينة شدةً بالغةً . فقد غدر ناس من عُكْل بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وعطشهم حتى ماتوا عطشا .. وإن لنا في قوله وهو أرحم الراحمين ( أو ينفوا من الأرض ) خيار ومندوحة عن البأس قبل أن نتمكن )(ص 149 الإحسان 2) . ومتى ثبتت أركان دولة "الخلافة على منهاج النبوة" واستقر لها الأمر ، فإن الجماعة، مالكة الدعوة والدولة، ستنفّذ نفس العقوبة وبنفس الحدة التي نفذها الرسول (ص) في أولئك القوم الذين خانوا العهد وقتلوا الراعي وسرقوا الإبل. هذه هي الديمقراطية وحقوق الإنسان التي جاءت "الوثيقة السياسية" تغري وتغرّر بها من يقبل التحالف مع الجماعة. إن مصير من سيتحالف مع الجماعة من الديمقراطيين واليساريين والاشتراكيين سيكون نفس مصير أعضاء حزب "تودة" في إيران الذين تحالفوا مع الخميني فنصب لهم المشانق في الساحات العمومية بعد أن استتب له الأمر.
استهداف إمارة المؤمنين.
كدأب كل التنظيمات الإسلامية، تصر جماعة العدل والإحسان على تجريد إمارة المؤمنين من سلطتها الروحية وإشرافها على الحقل الديني. فالجماعة تدرك محورية إمارة المؤمنين في الحياة السياسية والدستورية للمغاربة، كما تدرك فشل من سبقوها في المطالبة بإسنادها إلى شخص ذي تكوين ديني/فقهي يتولى ممارستها. لهذا لم تتطرق "الوثيقة السياسية" بشكل مباشر إلى مؤسسة إمارة المؤمنين حتى لا تنفّر الأطراف المستهدفة بالتحالف معها على اعتبار أن الأحزاب السياسية مقتنعة بإسناد مسؤولية الحقل الديني، إشرافا وتدبيرا وتوجيها إلى إمارة المؤمنين ضمانا للأمن الروحي للمغاربة وحماية لملّتهم ووحدة مذهبهم حتى لا تتنازعهم المذهبية وتمزق الطائفيةُ نسيجهم المجتمعي. واختارت الدائرة السياسية الالتفاف على إمارة المؤمنين بالدعوة إلى تجريدها من سلطة الإشراف على الحقل الديني وإسنادها إلى "إطار مؤسساتي" يتولى الإفتاء "ويحدد السياسة العامة في المجال الديني" باقتراحاتها التالية:
= "تنظيم الإفتاء في شكل مؤسسة للاجتهاد على أصول الرسالة الإسلامية بفقهها التجديدي الجامع المعتدل والمنفتح على مختلف التخصصات.
= إنشاء إطار مؤسساتي مستقل ينظم شؤون المساجد ويحدد السياسة العامة في المجال الديني، وذلك وفق مقاربة تشاركية
= عدم إغلاق المساجد في وجه المصلين بسبب الهواجس الأمنية المتوهمة في كثير من الأحيان، مع مراعاة حرمة المسجد وحمايته من التسيب والفوضى".
لم تقتنع الجماعة بأهمية تأسيس هيئة الإفتاء التي يترأسها جلالة الملك بصفته أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى، لأنها، من جهة غير ممثلة فيها، ومن أخرى لن تخدم مصالحها وتمكّنها من تمرير مواقفها؛ فجاء اقتراحها هذا تجاوزا لتلك الهيئة وإنكارا لأهميتها في ترشيد الفتوى وضبطها. كما لم تقتنع بوجود وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي تتولى الإشراف على المساجد والوقف وتدبير الحقل الديني وحمايته من الخارجين عن المذهب الرسمي للمملكة. وكيف لها أن تقتنع بها وهي التي تصدت للمتسللين من عناصر الجماعة إلى منابر المساجد وكراسي المرشدات الدينيات بعد انكشاف أمر تأطيرهم لرواد المساجد لفائدة الجماعة ومشروعها السياسي وترويج خطابها الإيديولوجي.
إن هدف الجماعة من هذه الاقتراحات هو فتح المجال أمامها لاستغلال المساجد لتحقيق هدفين رئيسيين حددتهما الوثيقة كالتالي:
أ/ "الانتقال من إسلام فردي إلى إسلام جماعي، ومن إسلام مشتت إلى إسلام جامع، ومن إسلام سكوني إلى إسلام فاعل". فالجماعة تريد استغلال الدين للتحريض ضد النظام والدولة ومؤسساتهما، أي تشكيل قوة مجتمعية "ثائرة" تنتظر الإشارة من الجماعة "للزحف" على السلطة. ذلك أن إستراتيجية الجماعة تقوم على ثلاث مراحل: التربية، التنظيم، الزحف. إن "التغيير السياسي في مشروع الجماعة يرتبط إذا على مستوى مبادئه وقيمه ارتباطا وثيقا بالمشروع الدعوي العام وبالتغيير التربوي والأخلاقي"؛ ولا يمكن بلوغه إلا بالسيطرة على المساجد واستغلالها.
ب/ "رص الصف وتوحيد الجهود وبناء القوة المجتمعية لصناعة التحول المنشود والتغيير المراد". ذلك أن هدف الجماعة من كسر إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الدينية على المساجد حتى لا تستغلها التنظيمات الدعوية والسياسية، ليس هو عبادة الله بقدر ما هو التغلغل في المجتمع والتلاعب بوجدان أفراده لنقلهم من "إسلام سكوني" إلى "إسلام فاعل". إن الجماعة وفية لمرشدها ومنهاجه الذي وضع أسسه عند مغادرته للزاوية البودشيشية بعد وفاة شيخها الحاج عباس ورفْض مريديها الانجرار وراء أطماع وطموحات الشيخ ياسين باعتراف منه ( رحل (الحاج عباس) وترك مجموعة من الأشخاص فضَّلتْ أن تتبع تقليد الطريقة الصوفية ، التقليد الذي يعرفه الجميع: حيث يحظى الشيخ باحترام الجميع ، وحيث الأتباع مجرد مجموعة من البشر ليس لديها أي مشروع .. إطار لا يطابق الشريعة إلا إلى حد ما .. حاولتُ أن أوجهه مع ذلك وجهة تتوافق مع مفهومي عن الإسلام ، أي حاولت أن أجمع بين خبرتي الصوفية والمعلومات التي توصلت إليها من قراءة الكتب)(ص36 الإسلام السياسي صوت الجنوب). حاول الشيخ ياسين توظيف الزاوية البودشيشية لجعلها نواة لحركة دينية/ سياسية انقلابية، لكنه فشل (ونصحت وما آلوت علِم الله وتمزق فؤادي شفقة على أهل بيت عرفوني بالله وعلموني المحبة والتقوى وعادوني وآذوني وانتهى العداء إلى مداه لما نصحت لهم بالجهاد والنهوض للدفاع عن الإسلام الذي أصبح لعبة في ديارنا )( رسالة الإسلام أو الطوفان).
إذن، هدف الجماعة من جعل المساجد خارج مراقبة الدولة هو تجريد الملك من سلطته الدينية، ومن ثم تجنيد الخطباء للمساهمة في إعادة تشكيل وجدان الشعب عبر التحريض على "الجهاد" وخلق جبهة مقاومة مستعدة للانخراط في مشروع الجماعة الانقلابي " تسعى لإقامة الدين في نفسها وفي المجتمع، عبر الدعوة السلمية الرفيقة، والحراك المجتمعي المدني على جميع أصعدة الفعل الإنساني، تربية وتفكيرا وتثقيفا وتنويرا وتعليما وتنظيرا وتدافعا". ومن شأن استغلال المساجد أن يسرّع تشكيل القوة البشرية التي تكون وقودا للجماعة في "قومتها".
الجماعة تريد الحكم لا الحكومة.
قد يتساءل المرء ما الذي يمنع الدائرة السياسية للجماعة من تشكيل حزب سياسي ودخول المنافسات الانتخابية؛ ومن ثم تنفيذ الاقتراحات التي تقدمت بها عبر "الوثيقة السياسية". لقد راهنت بعض الأحزاب على التحاق الجماعة بها وتعزيز صفوفها، لكن دون جدوى. فالجماعة لا تريد الحكومة، بل تريد الحكم. وطالما أن الجماعة وفية لمنهاج مرشدها فلن تشارك في الانتخابات أو تدخل مؤسسات الدولة ( ليكن واضحا جليا أننا لا نخطب ود الأنظمة الفاسدة الكاذبة الخاطئة . وليكن واضحا أن خطة بعض المترددين من فلول الحركة الإسلامية المتكسرين إلى مصالحة مع المزورين ليست خطتنا )(ص 571 العدل). وبالتالي لا يرى الشيخ أي جدوى من تلك المشاركة حتى وإن منحته رئاسة الحكومة ( تنسل الحركة الإسلامية في هذا القطر أو ذاك إلى الحكم انسلالا تدريجيا عن طريق انتخابات لم تجد الديمقراطيات المُولَّدةُ بدا من شق بعض فجاجها للإسلاميين ، فتلك فرصة للتناوب على الحكم . وينبري الإسلاميون حاملو شعار " البديل السياسي" ليدخلوا مع الناس في دوامة التناوب على الحكم صعودا وهبوطا ، تناديهم أصوات انتخابية ملت من عديلهم اللاييكي الدنيوي ، لتلفظهم وتستبدل بهم قوما آخرين بعد تجربة لن يألُوَ الناصبون والنصابون جهدا في إفشالها . وتلك فرصة سرابية ما كان لمتعطش فاضل أن ينتظر منها حسْواً لظمأته أو غرفة لريِّ الشعوب المالَّةِ القاحِلِ ساحُها من عدل ونماء وخير تعد به الديمقراطيات المُوَلَّدَة ولا تفي)(ص 567 العدل). فالأمر محسوم بالنسبة للجماعة ولا مجال للمشاركة في الانتخابات إلا إذا توفرت شروط بعينها: انتخاب هيئة تأسيسية لوضع الدستور، طبيعة النظام تحددها تلك الهيئة. أي إسقاط النظام أو تجريده من كل سلطاته.
إن الجماعة مصرة على مقاطعة النظام وعدم المشاركة من داخل مؤسساته؛ لهذا تسعى للانقلاب عليه وفق الطريقة الخمينية. وأي دعوة للتحالف تأتيها من خارجها سيكون مصيرها الرفض القاطع. فالجماعة لها شروطها ولها أجندتها ولا تريد خدمة أجندات الغير ( فإذا دعوتمونا ـ معشر الفضلاء المثقفين ـ لجبهة ديمقراطية نكون فيها النواة الشعبية المَسوقة فنحن ندعوكم إلى مراجعة أصولكم الثقافية ذات النزعة التوفيقية المرتبكة في معضلة الجمع بين الأصالة والمعاصرة … ومتى كنا بجنبكم ، نواة شعبية مُوَجَّهة ، فقد اكتملت لكم بالقوة العضلية الإسلامية مقومات الحركة السياسية التي تخرجكم من عزلتكم وتعيدكم من منفاكم )(ص 530 ، 531 العدل ). من هنا تجعل الجماعة مشروعها هو المهيمن ( مشروعنا أيها الأعزاء أن تدخلوا الميدان على شرطنا .. ندعوكم أن تدخلوا معنا الميدان على شرطنا وهو شرط الإسلام )( ص 531 العدل ). ورفعا لكل لُبْس فإن الجماعة تنهج "مبدأ التقية" في مخاطبة الأحزاب والتنظيمات المدنية والنقابية لأنها تعلم يقينا أن لا دراية لها بالأسس والمبادئ التي وضعها مرشد الجماعة لتكون هي الموجِّه والمحدد لمواقفها وخططها ومشروعها السياسي. لهذا تتجنب قيادتُها، في كل الملتقيات والندوات، الحديث عن تلك الأسس والمبادئ ومصير العلمانيين واليساريين والاشتراكيين عند قيام "دولة القرآن". ذلك أن دعوة الجماعة إلى "دولة مدنية" و "ديمقراطية" ليست دعوة صادقة بقدر ما هي "تقية" وخداع يُخفيان الموقف الحقيقي من الديمقراطية ( مأخذنا الجوهري على الديمقراطية أنها تتغافل الشطر الآخر، لا تقترح على الإنسان مخرجا من الكفر وهو الظلم الأكبر، مأخذنا عليها لازمتها وضجيعتها اللاييكية التي تستبعد كل ضابط أخلاقي فإذا بالحرية تتجاوز كل الحدود وتتوق إلى كل ممتنع، ونحن قمة حريتنا أن نكون عبيدا لله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) (الفرقان: 63). مأخذنا الجوهري عليها أنها فلسفة ضد الإسلام وآلية مقطوعة عن الله، ونحن شورانا عبادة وليست شكلا تواضع عليه الناس، والتحلي بها استجابة لأمر إلهي) ص 36 الشورى).
واضح أن جماعة العدل والإحسان ترفض الانخراط في مؤسسات النظام كما ترفض النضال من أجل الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون، لكنها تفضل الركوب على نضالات غيرها وقطف ثمار تضحياتهم. إن حال الجماعة كحال اليهود الذين قالوا للنبي موسى عليه السلام (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة24.