تحليل

التضخم وتآكل النوابض الاجتماعية

محمد شيكر

في‭ ‬البداية‭ ‬اقتصر‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المواد‭ ‬المستوردة‭ ‬كالمحروقات‭ ‬وزيت‭ ‬المائدة‭ ‬والحبوب‭ ‬وذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬عوامل‭ ‬خارجية‭ ‬تتعلق‭ ‬أساسا‭ ‬بمخلفات‭ ‬الجائحة‭ ‬والحرب‭ ‬الأكرانية‭ ‬الروسية‭ ‬والتقلبات‭ ‬المناخية‭. ‬ كان‭ ‬بإمكان‭ ‬الحكومة‭ ‬وبنك‭ ‬المغرب‭ ‬تدارك‭ ‬الموقف‭ ‬واحتواء‭ ‬هذا‭ ‬الارتفاع‭ ‬ خاصة‭ ‬ذلك‭ ‬المتعلق‭ ‬بأسعار‭ ‬المحروقات ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتعمم‭ ‬ويتحول‭ ‬إلى‭ ‬تضخم،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحدث،‭ ‬حيث‭ ‬انتشر‭ ‬الغلاء‭ ‬انتشار‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬الهشيم‭ ‬ليضرب‭ ‬في‭ ‬الصميم‭ ‬القدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬ويسرع‭ ‬من‭ ‬وثيرة‭ ‬تآكل‭ ‬النوابض‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وإتلاف‭ ‬شبكة‭ ‬الأمن‭ ‬الاجتماعية‭.‬ 

1 - عندما يلتقي بنك المغرب والحكومة في تدبير غير موفق لظاهرة التضخم

إذا‭ ‬كان‭ ‬مصدر‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬خارجي‭ ‬فان‭ ‬مصدر‭ ‬تعميمه‭ ‬الذي‭ ‬تولدت‭ ‬عليه‭ ‬ظاهرة‭ ‬التضخم،‭ ‬داخلي‭ . ‬فغياب‭ ‬الصرامة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬وطريقة‭ ‬معالجتها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬بنك‭ ‬المغرب،‭ ‬فسح‭ ‬المجال‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬اعتاد‭ ‬على‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬العكر‭ ‬على‭ ‬تكثيف‭ ‬صيده‭ ‬إرضاء‭ ‬لشجعه‭. ‬فمع‭ ‬مطلع‭ ‬سنة‭ ‬2023‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬أسعار‭ ‬المواد‭ ‬المستوردة‭ ‬تنخفض‭ ‬نسبيا،‭ ‬ارتفعت‭ ‬وبشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬أثمنة‭ ‬منتوجات‭ ‬محلية‭ ‬كالخضروات‭ ‬واللحوم‭ ‬الحمراء‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬فوائد‭ ‬القروض‭ . ‬فالحكومة‭ ‬أظهرت‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬قصورا‭ ‬مريبا‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬المواد‭ ‬المستوردة‭ ‬خاصة‭ ‬المحروقات‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬استخفافها‭ ‬بالرأي‭ ‬العام‭ ‬بإرجاع‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬المنتوجات‭ ‬الداخلية‭ ‬إلى‭ ‬عوامل‭ ‬الطقس‭ ‬البرودة‭ ‬والجفاف‭ ‬دون‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬أخلت‭ ‬بأحد‭ ‬ركائز‭ ‬التدبير‭ ‬العقلاني‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الاستباقية‭. ‬فمهمة‭ ‬الحكومة‭ ‬الأساسية‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬إطفاء‭ ‬الحرائق‭ ‬ولكن‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تجنبها‭.‬

أثبتت‭ ‬الحكومة‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬الفكر‭ ‬الليبرالي‭ ‬المهيمن‭ ‬حيث‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬كيفما‭ ‬كانت،‭ ‬لا‭ ‬تحسن‭ ‬تدبير‭ ‬التضخم‭ ‬لطبيعتها‭ ‬الفئوية‭ ‬وعدم‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬اللوبيات،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬انفكت‭ ‬تروجه‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية‭ ‬وتحث‭ ‬على‭ ‬اعتناقه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬محدوديته‭ ‬التي‭ ‬تجلت‭ ‬وبشكل‭ ‬لا‭ ‬يناقش‭ ‬خلال‭ ‬الأزمة‭ ‬الصحية‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬فيروس‭ ‬كوفيد‭ ‬19 ‬جانب‭ ‬الصواب‭ ‬بدعوته‭ ‬إلى‭ ‬تمكين‭ ‬البنوك‭ ‬المركزية‭ ‬من‭ ‬استقلاليتها‭ ‬كشرط‭ ‬عين‭ ‬لضمان‭ ‬استقرار‭ ‬الأسعار‭ ‬باعتبار‭ ‬هذا‭ ‬الاستقرار‭ ‬من‭ ‬أولويات‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭. ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬المقولة‭ ‬الشهيرة‭ ‬التالية‭ ‬لأحد‭ ‬رواد‭ ‬هذا‭ ‬الفكر،‭ ‬الأميركي‭ ‬ميلتن‭ ‬فريدمان: "في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬وقت،‭ ‬التضخم‭ ‬ظاهرة‭ ‬نقدية"‭ ‬والحقيقة‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬فالتضخم‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مصدره‭ ‬نقدي‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬فما‭ ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬كوفيد‭ ‬19‭ ‬من‭ ‬انقطاع‭ ‬في‭ ‬التمويل‭ ‬وارتفاع‭ ‬في‭ ‬أثمنة‭ ‬الشحن‭ ‬وما‭ ‬أفرزته‭ ‬الحرب‭ ‬الأكرانية‭ ‬الروسية‭ ‬من‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬أسعار‭ ‬المحروقات‭ ‬والحبوب‭ ‬وما‭ ‬خلفته‭ ‬التداعيات‭ ‬المناخية‭ ‬من‭ ‬ندرة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواد،‭ ‬كلها‭ ‬عوامل‭ ‬غير‭ ‬نقدية‭ ‬يصعب‭ ‬للبنك‭ ‬المركزي‭ ‬معالجتها‭. ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬فالبنك‭ ‬المركزي‭ ‬الأمريكي‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬دعاة‭ ‬هذا‭ ‬الفكر،‭ ‬قام‭ ‬بمراجعة‭ ‬سياسته‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تروم‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬فائدة‭ ‬ضعيفة‭ ‬بالرفع‭ ‬من‭ ‬نسبة‭ ‬الفائدة‭ ‬المديرية‭.‬

أن‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬أبناك‭ ‬مركزية‭ ‬أخرى‭ ‬لدول‭ ‬متقدمة‭ ‬"الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬واليابان‭ ‬وبريطانيا‭ ‬العظمى"،‭ ‬فهذا‭ ‬شيء‭ ‬مفهوم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬يقلده‭ ‬بنك‭ ‬المغرب‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬شتنبر‭ ‬2022 ‬فهذا‭ ‬شيء‭ ‬يثير‭ ‬الاستغراب‭ ‬ويحتاج‭ ‬إلى‭ ‬توضيح‭. ‬تماهي‭ ‬الأبناك‭ ‬المركزية‭ ‬للبلدان‭ ‬المتقدمة‭ ‬مع‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬الأمريكي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬تداخل‭ ‬اقتصادياتها‭ ‬وترابط‭ ‬مصالحها،‭ ‬فاقتصاديات‭ ‬هاته‭ ‬البلدان‭ ‬مَثَلُ‭ ‬الجَسَدِ‭ ‬الواحد‭ ‬إذا‭ ‬اشْتَكَى‭ ‬مِنْهُ‭ ‬عُضْوٌ‭ ‬"خاصة‭ ‬الأمريكي"‭ ‬تَدَاعَى‭ ‬له‭ ‬سَائِرُ‭ ‬الجَسَدِ‭ ‬بالسَّهَرِ‭ ‬والحُمَّى‭. ‬اعتادت‭ ‬هذه‭ ‬الأبناك‭ ‬على‭ ‬التزامن‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس، ‬تقاسمت‭ ‬تقريبا‭ ‬نفس‭ ‬السياسة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبادر‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬الأمريكي‭ ‬إلى‭ ‬تغييرها‭ ‬حيث‭ ‬اعتمدت‭ ‬"التليين‭ ‬الكمي"‭ ‬كتقنية‭ ‬نقدية‭ ‬غير‭ ‬معتادة‭ ‬واتبعت‭ ‬سياسة‭ ‬تسييل‭ ‬الديون‭ ‬السيادية‭ ‬للرفع‭ ‬من‭ ‬صبيب‭ ‬السيولة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لما‭ ‬ضخ‭ ‬من‭ ‬نقود‭ ‬ما‭ ‬يقابله‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإنتاج‭ ‬وذلك‭ ‬للتأثير‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬الفائدة‭ ‬لتبقى‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ضعيف‭ ‬وتجنيب‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الانكماش‭ ‬النقدي(أو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭  ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬بالتضاؤل)‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬التضخم‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬المستهدف‭ ‬(2‭ ‬في‭ ‬المائة)‭ ‬وفسح‭ ‬المجال‭ ‬لدولها‭ ‬لتدعيم‭ ‬القطاعات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والتخفيف‭ ‬من‭ ‬الصدمات‭ ‬سواء‭ ‬منها‭ ‬الداخلية‭ ‬أو‭ ‬الخارجية‭ ‬المتوالية‭ ‬خاصة‭ ‬منها‭ ‬تلك‭ ‬المرتبطة‭ ‬بأزمتي‭ ‬2008‭ ‬وجائحة‭  ‬كوفيد‭. ‬

لم‭ ‬يساير‭ ‬بنك‭ ‬المغرب‭ ‬هاته‭ ‬الأبناك‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬السيولة‭ ‬خدمة‭ ‬لاقتصاداتها‭ ‬المحلية‭ ‬ومساهمة‭ ‬منها‭ ‬لتمكين‭ ‬دولها‭ ‬من‭ ‬النهوض‭ ‬بمهامها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭. ‬تجاهل‭ ‬تقنية‭ ‬"التليين‭ ‬الكمي"‭ ‬معتبرا‭ ‬إياها‭ ‬تقنية‭ ‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬منها،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يمانع‭ ‬في‭ ‬السير‭ ‬على‭ ‬خطاها‭ ‬لما‭ ‬قررت‭ ‬رفع‭ ‬نسبة‭ ‬الفائدة‭ ‬المديرية‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تحدير‭ ‬المتتبعين‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الارتفاع‭ ‬من‭ ‬انكماش‭ ‬قد‭ ‬تختلف‭ ‬حدته‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬ومن‭ ‬منطقة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬وتنبيه‭ ‬بعد‭ ‬المختصين‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬الجيواستراتيجي‭ ‬لقرار‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬الأمريكي‭ ‬"وهذا‭ ‬موضوع‭ ‬يستحق‭ ‬مقالا‭ ‬منفردا‭ ‬بارتباطه‭ ‬بالحرب‭ ‬الأكرانية‭ ‬الروسية"‭. ‬الأدهى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬البنك‭ ‬تغاضى‭ ‬على‭ ‬مؤشرات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬و‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬تحليله‭ ‬الموضوعي‭ ‬للظرفية‭ ‬المحلية‭ ‬و‭ ‬الذي‭ ‬على‭ ‬ضوئه‭ ‬قرر‭ ‬مجلسه‭ ‬المنعقد‭ ‬في‭ ‬يونيو‭   ‬2022‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬نسبة‭ ‬الفائدة‭ ‬المديرية,‭ ‬ليقرر‭ ‬في‭ ‬شتنبر‭ ‬2022‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬دجنبر‭ ‬الرفع‭ ‬من‭ ‬نسبة‭ ‬الفائدة‭ ‬المديرية‭ ‬بخمسين‭ ‬نقطة‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬الظرفية‭ ‬تغيرت‭ ‬و‭ ‬لكن‭ ‬لتفضيله‭ ‬التزامن‭ ‬مع‭ ‬الأبناك‭ ‬المركزية‭ ‬الكبرى‭ ‬حتى‭ ‬و‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التزامن‭ ‬يدفع‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬تعميم‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭  ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬نسب‭ ‬فوائد‭ ‬القروض‭ ‬و‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬في‭ ‬كلفة‭ ‬الاستثمارات‭ ‬من‭ ‬جهة,‭ ‬و‭ ‬استغلال‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬ضمائر‭ ‬لهم‭ ‬للرفع‭ ‬دون‭ ‬مبرر‭ ‬من‭ ‬هامش‭ ‬ربحهم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬يطرح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬علامة‭ ‬استفهام‭. ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬تبرير‭ ‬رفع‭ ‬سعر‭ ‬الفائدة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬التزامن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تشير‭ ‬فيه‭ ‬المعطيات‭ ‬الموضوعية‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬هذه‭ ‬الفائدة‭ ‬خدمة‭ ‬للاقتصاد‭ ‬الوطني؟‭ ‬ماذا‭ ‬حدث‭ ‬بين‭ ‬يونيو‭ ‬وشتنبر‭ ‬ليتخلى‭ ‬البنك‭ ‬عن‭ ‬تحليله‭ ‬الموضوعي‭ ‬للوضع‭ ‬الاقتصادي؟‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬التزامن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لبنك‭ ‬مركزي‭ ‬لبلد‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬النمو؟‭ ‬هل‭ ‬استسلم‭ ‬البنك‭ ‬لضغوطات‭ ‬خارجية‭ ‬لتغيير‭ ‬موقفه؟‭ ‬الأرجح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬بنك‭ ‬المغرب‭ ‬يتقاسم‭ ‬والمؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية‭ ‬نفس‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬تدبيره‭ ‬للتضخم،‭ ‬وفي‭ ‬سنه‭ ‬لسياسته‭ ‬النقدية‭ ‬عامة‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬فاستقلاليته‭ ‬عن‭ ‬الحكومة‭ ‬لا‭ ‬مبرر‭ ‬لها‭ ‬مادام‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬ليس‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬الضغوطات‭ ‬ومادام‭ ‬لا‭ ‬يحسن‭ ‬تدبير‭ ‬التضخم‭ ‬غير‭ ‬النقدي‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬الحكومة‭.‬

لهذا‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬المرجعية‭ ‬الفكرية‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬استقلالية‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬ومراجعة‭ ‬التضخم‭ ‬كإحدى‭ ‬أولويات‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬لاستبداله‭ ‬بأولوية‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬متناوله‭ ‬ويكون‭ ‬لها‭ ‬الوقع‭ ‬الحسن‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬كمحاربة‭ ‬البطالة‭ ‬أو‭ ‬تطوير‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأخضر‭. ‬إن‭ ‬التمادي‭ ‬في‭ ‬التشبث‭ ‬بهذه‭ ‬المرجعية‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬أزمة‭ ‬2008‭ ‬وجائحة‭ ‬كورونا‭ ‬19‭ ‬قصورها‭ ‬والتي‭ ‬أظهرت‭ ‬محدوديتها‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬للتضخم‭ ‬غير‭ ‬النقدي،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭ ‬وقد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحمد‭ ‬عقباه‭. ‬فالبنوك‭ ‬المركزية‭ ‬بإصرارها‭ ‬على‭ ‬الالتزام‭ ‬بمرجعية‭ ‬أكد‭ ‬الواقع‭ ‬عدم‭ ‬صلاحيتها‭ ‬لن‭ ‬تزيد‭ ‬الأمور‭ ‬إلا‭ ‬تعقيدا‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لوحظ‭ ‬برفعها‭ ‬لنسبة‭ ‬الفائدة‭ ‬المديرية‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬عدد‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬الانقطاع‭ ‬عن‭ ‬أداء‭ ‬ديونها‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬22‭ ‬سنة‭ ‬2022‭ ‬إلى‭ ‬52‭ ‬حاليا‭ ‬هذا،‭ ‬دون‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الإجراء‭ ‬قد‭ ‬يطعم‭ ‬التضخم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحد‭ ‬منه‭. ‬ففي‭ ‬المغرب‭ ‬مثلا،‭ ‬تعمم‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭ ‬ليصبح‭ ‬تضخما‭. ‬والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التضخم‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬الشرائية‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬تعداها‭ ‬لتسريع‭ ‬وثيرة‭ ‬تآكل‭ ‬النوابض‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬شبكة‭ ‬الأمان‭ ‬الاجتماعي‭.                                                                                                ‬

2 - التضخم وتآكل النوابض الاجتماعية

بتشكلها‭ ‬لشبكة‭ ‬الأمان‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬تساهم‭ ‬النوابض‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التوازن‭ ‬الأسري‭ ‬وتدعيم‭ ‬التماسك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وتكريس‭ ‬الاستقرار‭ ‬المجتمعي‭. ‬لهذا‭ ‬فأي‭ ‬مساس‭ ‬بها‭ ‬قد‭ ‬يخل‭ ‬بالتوازن‭ ‬الأسري‭ ‬وقد‭ ‬يحدث‭ ‬تصدعا‭ ‬في‭ ‬التماسك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ليعرض‭ ‬بالتالي‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭.‬‭ ‬لهذا،‭ ‬فمهما‭ ‬كانت‭ ‬الكلفة‭ ‬الميزانيتية‭ ‬لصيانة‭ ‬هذه‭ ‬النوابض‭ ‬مرتفعة،‭ ‬فإنها‭ ‬ستظل‭ ‬أقل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬كلفة‭ ‬إضعاف‭ ‬هذه‭ ‬النوابض‭ ‬ومن‭ ‬إتلاف‭ ‬شبكة‭ ‬الأمان‭ ‬الاجتماعية‭. ‬لهذا،‭ ‬لا‭ ‬خِيار‭ ‬للدولة‭ ‬غير‭ ‬التصدي‭ ‬للتضخم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النوابض‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬المغاربة‭ ‬قد‭ ‬أظهروا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الآن‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬التجلد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يعانونه‭ ‬من‭ ‬تراجع‭ ‬في‭ ‬قوتهم‭ ‬الشرائية‭ ‬وأبانوا‭ ‬عن‭ ‬قدرة‭ ‬تحمل‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬فلأنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النوابض‭ ‬ما‭ ‬ساعدهم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬على‭ ‬التحمل‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬يناهز‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬استقرار‭ ‬في‭ ‬الأثمنة‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التحمل‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬الاستمرار‭ ‬باستمرار‭ ‬تآكل‭ ‬النوابض‭ ‬الاجتماعية‭. ‬لهذا،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإسراع‭ ‬في‭ ‬إلجام‭ ‬التضخم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يضيع‭ ‬المغرب‭ ‬عن‭ ‬أنفسه‭ ‬امتيازه‭ ‬المقارن‭ ‬الذي‭ ‬ينفرد‭ ‬به‭ ‬بمنطقته‭ ‬والمتمثل‭ ‬في‭ ‬الاستقرار‭ ‬والتوافق‭ ‬الموضوعي‭ ‬لقواه‭ ‬الحية‭.‬

من‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬النوابض،‭ ‬هناك‭ ‬خمسة‭ ‬سنأتي‭ ‬على‭ ‬دكرها‭ ‬الواحد‭ ‬بعد‭ ‬الآخر‭.‬ 

1- نظام المقاصة

في‭ ‬البداية‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المقاصة‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬الدعم‭. ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬الميزانية‭ ‬العمومية‭ ‬ولكن‭ ‬تعتمد‭ ‬ميكانزيم‭ ‬العدال‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬توازنها‭ ‬و‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬تعويض‭ ‬متبادل‭ ‬بين‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬تشملها‭ ‬المقاصة‭. ‬فالفائض‭ ‬الذي‭ ‬تسجله‭ ‬بعض‭ ‬المواد‭ ‬يحول‭ ‬لتغطية‭ ‬عجز‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭. ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬سجل‭ ‬النظام‭ ‬فائضا‭ ‬فيحتفظ‭ ‬به‭ ‬تحسبا‭ ‬لأي‭ ‬خصاص‭ ‬محتمل‭. ‬ويعود‭ ‬هذا‭ ‬النظام،‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬صندوق‭ ‬المقاصة‭ ‬والمكتب‭ ‬الوطني‭ ‬للحبوب‭ ‬والقطاني،‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬الحماية‭ ‬التي‭ ‬وظفته‭ ‬لصالح‭ ‬المعمرين‭. ‬وفي‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬قامت‭ ‬الدولة‭ ‬بإصلاحه‭ ‬لدعم‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلي‭ ‬خاصة‭ ‬منه‭ ‬إنتاج‭ ‬السكر‭ ‬والحبوب‭ ‬وتحقيق‭ ‬الاكتفاء‭ ‬الذاتي‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬المواد‭ ‬الحيوية‭ ‬كالحليب‭ ‬وزيت‭ ‬المائدة‭. ‬فلتوفير‭ ‬صناعة‭ ‬سكرية‭ ‬مثلا‭ ‬وتطويرها،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬حمايتها‭ ‬مقابل‭ ‬تفعيل‭ ‬المقاصة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬الشرائية‭ ‬للمواطن‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬ثمن‭ ‬السكر‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الخارجي‭ ‬أرخص‭ ‬من‭ ‬السكر‭ ‬المنتج‭ ‬داخليا‭. ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الاتجاه،‭ ‬دعم‭ ‬الفلاح‭ ‬المنتج‭ ‬للحبوب‭ ‬استوجب‭ ‬تدخل‭ ‬المقاصة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬ثمن‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬لا‭ ‬يضر‭ ‬بالقوة‭ ‬الشرائية‭ ‬للمواطن‭. ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬انفرد‭ ‬به‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬منطقته‭ ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬إذن‭ ‬لدعم‭ ‬الفقراء‭ ‬كما‭ ‬يدعي‭ ‬الكثيرون‭ ‬وكما‭ ‬روجه‭ ‬الخطاب‭ ‬الرسمي‭ ‬ولازال‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬استغل‭ ‬العجز‭ ‬الذي‭ ‬عرفه‭ ‬صندوق‭ ‬المقاصة‭ ‬نتيجة‭ ‬تضريب‭ ‬مواده‭ ‬بعد‭ ‬الإصلاح‭ ‬الضريبي‭ ‬لسنة‭ ‬1986‭ ‬خلافا‭ ‬للمكتب‭ ‬الوطني‭ ‬للحبوب‭ ‬والقطاني‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬رصيده‭ ‬إيجابي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬امتصته‭ ‬الخزينة‭.‬

وجدت‭ ‬المقاصة‭ ‬لتحقيق‭ ‬هدفين‭ ‬أثبتت‭ ‬الجائحة‭ ‬مدى‭ ‬أهميتهما‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬ألا‭ ‬وهما‭ ‬دعم‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلي‭ ‬وتحقيق‭ ‬الاكتفاء‭ ‬الذاتي‭. ‬فلو‭ ‬استمرت‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬المنوال‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدته‭ ‬عند‭ ‬إصلاحها‭ ‬لنظام‭ ‬المقاصة‭ ‬لكان‭ ‬المغرب‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬أحسن‭. ‬فعجز‭ ‬صندوق‭ ‬المقاصة‭ ‬جاء‭ ‬نتيجة‭ ‬تخلي‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬المنهجية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لصالح‭ ‬المنهجية‭ ‬المحاسبتية‭. ‬هذا‭ ‬التخلي‭ ‬حول‭ ‬المقاصة‭ ‬إلى‭ ‬منبع‭ ‬ريع‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمنتجي‭ ‬ووسطاء‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬تشملها‭ ‬المقاصة‭.‬

 

وبدل‭ ‬إصلاحها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬للقطع‭ ‬مع‭ ‬الريع‭ ‬والالتزام‭ ‬بمفهومها‭ ‬الصحيح‭ ‬ومضمونها‭ ‬الإيجابي،‭ ‬شرع‭ ‬في‭ ‬تفكيكها‭ ‬خاصة‭ ‬بإخراج‭ ‬المحروقات‭ ‬من‭ ‬مضمارها‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬إجراءات‭ ‬مصاحبة،‭ ‬والنتيجة‭ ‬ما‭ ‬نعيشه‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬تضخم‭ ‬وما‭ ‬عايناه‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬جشع‭ ‬شركات‭ ‬التوزيع‭. ‬سيقول‭ ‬قائل‭ ‬كيف‭ ‬للميزانية‭ ‬أن‭ ‬تتحمل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لها‭ ‬به‭. ‬كان‭ ‬بالإمكان‭ ‬الاسترشاد‭ ‬بالطريقة‭ ‬الناجعة‭ ‬التي‭ ‬دبر‭ ‬بها‭ ‬المغرب‭ ‬الجائحة‭ ‬(الصندوق‭ ‬الخاص‭ ‬بتدبير‭ ‬جائحة‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬19) ‭ ‬والتي‭ ‬ثمنها‭ ‬الجميع،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬الاستئناس‭ ‬بالسياسة‭ ‬النقدية‭ ‬غير‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬اتبعتها‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬لدعم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتصدي‭ ‬للخصاص‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬سيحدث‭ ‬لو‭ ‬رفعت‭ ‬الحكومة‭ ‬يدها‭ ‬عن‭ ‬البوطان؟‭ ‬إن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬الأثمنة‭ ‬في‭ ‬المطلق‭ ‬التي‭ ‬تسوغها‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬توصية،‭ ‬دعوة‭ ‬ملغومة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬الجائحة‭ ‬أثبتت‭ ‬محدودية‭ ‬السوق‭ ‬ولكن‭ ‬لأنها‭ ‬دعوة‭ ‬غير‭ ‬بريئة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تفضيل‭ ‬التوازنات‭ ‬الماكرواقتصادية‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬طابع‭ ‬محاسبتي‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التوازنات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمجتمعية‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬طابع‭ ‬إنساني‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬الواقع‭ ‬المَعِيش‭.‬

حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هاته‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬تتسم‭ ‬بالدغمائية‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الإكراهات‭ ‬الخارجية،‭ ‬فهذا‭ ‬لا‭ ‬يشفع‭ ‬للحكومة‭ ‬التزامها‭ ‬بها‭ ‬مادامت‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬التماسك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ولا‭ ‬تراعي‭ ‬المصلحة‭ ‬العليا‭ ‬للبلاد‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬الاستقرار‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭. ‬فالمؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬المالية‭ ‬ليست‭ ‬قدرنا‭ ‬حتى‭ ‬نجعل‭ ‬منها‭ ‬سيف‭ ‬ديموقليس‭. ‬لقد‭ ‬أثبت‭ ‬المغرب‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬الند‭ ‬للند‭ ‬أمام‭ ‬دول‭ ‬كانت‭ ‬البارحة‭ ‬تبتزه‭ ‬وأكد‭ ‬صحة‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬المتنبي:‭ ‬"على‭ ‬قدر‭ ‬أهل‭ ‬العزم‭ ‬تأتي‭ ‬العزائم"‭.‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يحيل‭ ‬دون‭ ‬تمديد‭ ‬تقوية‭ ‬قدرته‭ ‬التفاوضية‭ ‬لتشمل‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬المالية‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يعاب‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬وما‭ ‬يحسب‭ ‬عليها‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يحسب‭ ‬لها؟‭                                                                                                     ‬‭     ‬

2 - تعدد مصادر الدخل

أثار‭ ‬انتباهي‭ ‬قدرة‭ ‬الفئات‭ ‬المتوسطة‭ ‬على‭ ‬التحمل‭ ‬خلافا‭ ‬لنظيراتها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬كفرنسا‭. ‬ففي‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬الأوروبية‭ ‬دفع‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬المحروقات‭ ‬الفئات‭ ‬المتوسطة‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬سلوكها‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬عاداتها‭ ‬الاستهلاكية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬تخلت‭ ‬شرائح‭ ‬كبيرة‭ ‬منها‭ ‬عن‭ ‬السيارة‭ ‬الشخصية‭ ‬لصالح‭ ‬"السيارة‭ ‬التشاركية"  ‬والنقل‭ ‬العمومي‭ ‬والدراجة‭ ‬الهوائية‭ ‬وتروتينت،‭ ‬بينما‭ ‬حافظت‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬المغربية‭ ‬على‭ ‬سلوكيات‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬ارتفاع‭ ‬ثمن‭ ‬المحروقات‭. ‬يكفي‭ ‬للمرء‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق‭ ‬ساعة‭ ‬دخول‭ ‬أو‭ ‬خروج‭ ‬الأجراء‭ ‬من‭ ‬مقرات‭ ‬عملهم‭ ‬ليلاحظ‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬السيارات‭ ‬لا‭ ‬يركبها‭ ‬إلا‭ ‬السائق‭. ‬قد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬قد‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬النقل‭ ‬العمومي‭ ‬وربما‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬الأولويات‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬لكن‭ ‬الظاهر‭ ‬أن‭ ‬السيارة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للفئات‭ ‬المتوسطة‭ ‬ليست‭ ‬وسيلة‭ ‬للنقل‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬مؤشر‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يولي‭ ‬الأهمية‭ ‬للمظهر‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬للجوهر‭. ‬فالمغربي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬أي‭ ‬حرج‭ ‬في‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬السلوك‭ ‬العقلاني‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬لا‭ ‬يخدم‭ ‬مظهره‭. ‬لهذا،‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬دخل‭ ‬تكميلي‭ ‬لتغطية‭ ‬ضعف‭ ‬دخله‭ ‬الرئيس‭ ‬وللاعتناء‭ ‬بمظهره‭....