في البداية اقتصر ارتفاع الأسعار على بعض المواد المستوردة كالمحروقات وزيت المائدة والحبوب وذلك نتيجة عوامل خارجية تتعلق أساسا بمخلفات الجائحة والحرب الأكرانية الروسية والتقلبات المناخية. كان بإمكان الحكومة وبنك المغرب تدارك الموقف واحتواء هذا الارتفاع خاصة ذلك المتعلق بأسعار المحروقات قبل أن يتعمم ويتحول إلى تضخم، لكن هذا ما لم يحدث، حيث انتشر الغلاء انتشار النار في الهشيم ليضرب في الصميم القدرة الشرائية ويسرع من وثيرة تآكل النوابض الاجتماعية وإتلاف شبكة الأمن الاجتماعية.
1 - عندما يلتقي بنك المغرب والحكومة في تدبير غير موفق لظاهرة التضخم
إذا كان مصدر ارتفاع الأسعار في بدايته خارجي فان مصدر تعميمه الذي تولدت عليه ظاهرة التضخم، داخلي . فغياب الصرامة في التعامل مع هذه الظاهرة وطريقة معالجتها من طرف بنك المغرب، فسح المجال لكل من اعتاد على الصيد في الماء العكر على تكثيف صيده إرضاء لشجعه. فمع مطلع سنة 2023 وفي الوقت الذي بدأت أسعار المواد المستوردة تنخفض نسبيا، ارتفعت وبشكل غير مسبوق أثمنة منتوجات محلية كالخضروات واللحوم الحمراء إضافة إلى فوائد القروض . فالحكومة أظهرت من جهة، قصورا مريبا في تعاملها مع ارتفاع أسعار المواد المستوردة خاصة المحروقات منها ومن جهة أخرى، استخفافها بالرأي العام بإرجاع ارتفاع أسعار المنتوجات الداخلية إلى عوامل الطقس البرودة والجفاف دون الإشارة إلى أنها أخلت بأحد ركائز التدبير العقلاني المتمثل في الاستباقية. فمهمة الحكومة الأساسية ليست هي إطفاء الحرائق ولكن العمل على تجنبها.
أثبتت الحكومة ما ذهب إليه الفكر الليبرالي المهيمن حيث يعتبر أن الحكومة كيفما كانت، لا تحسن تدبير التضخم لطبيعتها الفئوية وعدم قدرتها على مقاومة اللوبيات، لكن هذا الفكر الذي ما انفكت تروجه المؤسسات المالية الدولية وتحث على اعتناقه بالرغم من محدوديته التي تجلت وبشكل لا يناقش خلال الأزمة الصحية الناجمة عن فيروس كوفيد 19 جانب الصواب بدعوته إلى تمكين البنوك المركزية من استقلاليتها كشرط عين لضمان استقرار الأسعار باعتبار هذا الاستقرار من أولويات هذه المؤسسات. هذا التوجه مبني على المقولة الشهيرة التالية لأحد رواد هذا الفكر، الأميركي ميلتن فريدمان: "في كل مكان وفي كل وقت، التضخم ظاهرة نقدية" والحقيقة غير ذلك. فالتضخم قد يكون مصدره نقدي وقد يكون غير ذلك. فما ترتب على كوفيد 19 من انقطاع في التمويل وارتفاع في أثمنة الشحن وما أفرزته الحرب الأكرانية الروسية من زيادة في أسعار المحروقات والحبوب وما خلفته التداعيات المناخية من ندرة في بعض المواد، كلها عوامل غير نقدية يصعب للبنك المركزي معالجتها. على الرغم من هذا، فالبنك المركزي الأمريكي الذي يعد أحد دعاة هذا الفكر، قام بمراجعة سياسته النقدية التي كانت تروم الإبقاء على نسبة فائدة ضعيفة بالرفع من نسبة الفائدة المديرية.
أن تسير على نهج البنك المركزي أبناك مركزية أخرى لدول متقدمة "الاتحاد الأوروبي واليابان وبريطانيا العظمى"، فهذا شيء مفهوم إلى حد ما، لكن أن يقلده بنك المغرب ابتداء من شهر شتنبر 2022 فهذا شيء يثير الاستغراب ويحتاج إلى توضيح. تماهي الأبناك المركزية للبلدان المتقدمة مع البنك المركزي الأمريكي يعود إلى تداخل اقتصادياتها وترابط مصالحها، فاقتصاديات هاته البلدان مَثَلُ الجَسَدِ الواحد إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ "خاصة الأمريكي" تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى. اعتادت هذه الأبناك على التزامن فيما بينها. على هذا الأساس، تقاسمت تقريبا نفس السياسة قبل أن يبادر البنك المركزي الأمريكي إلى تغييرها حيث اعتمدت "التليين الكمي" كتقنية نقدية غير معتادة واتبعت سياسة تسييل الديون السيادية للرفع من صبيب السيولة دون أن يكون لما ضخ من نقود ما يقابله على مستوى الإنتاج وذلك للتأثير على نسبة الفائدة لتبقى في مستوى ضعيف وتجنيب الاقتصاد الانكماش النقدي(أو ما يمكن التعبير عنه بالتضاؤل) بالحفاظ على نسبة التضخم في المستوى المستهدف (2 في المائة) وفسح المجال لدولها لتدعيم القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والتخفيف من الصدمات سواء منها الداخلية أو الخارجية المتوالية خاصة منها تلك المرتبطة بأزمتي 2008 وجائحة كوفيد.
لم يساير بنك المغرب هاته الأبناك لما كانت تعمل على توفير السيولة خدمة لاقتصاداتها المحلية ومساهمة منها لتمكين دولها من النهوض بمهامها الاجتماعية والاقتصادية. تجاهل تقنية "التليين الكمي" معتبرا إياها تقنية لا فائدة منها، لكنه لم يمانع في السير على خطاها لما قررت رفع نسبة الفائدة المديرية بالرغم من تحدير المتتبعين على ما قد يترتب على هذا الارتفاع من انكماش قد تختلف حدته من دولة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى وتنبيه بعد المختصين إلى البعد الجيواستراتيجي لقرار البنك المركزي الأمريكي "وهذا موضوع يستحق مقالا منفردا بارتباطه بالحرب الأكرانية الروسية". الأدهى من هذا أن البنك تغاضى على مؤشرات الاقتصاد الوطني و تخلى عن تحليله الموضوعي للظرفية المحلية و الذي على ضوئه قرر مجلسه المنعقد في يونيو 2022 الإبقاء على مستوى نسبة الفائدة المديرية, ليقرر في شتنبر 2022 ثم في دجنبر الرفع من نسبة الفائدة المديرية بخمسين نقطة على التوالي لا لأن الظرفية تغيرت و لكن لتفضيله التزامن مع الأبناك المركزية الكبرى حتى و إن كان هذا التزامن يدفع في اتجاه تعميم ارتفاع الأسعار من خلال الزيادة في نسب فوائد القروض و ما يترتب عليها من ارتفاع في كلفة الاستثمارات من جهة, و استغلال من لا ضمائر لهم للرفع دون مبرر من هامش ربحهم من جهة أخرى. هذا التوجه يطرح أكثر من علامة استفهام. كيف يمكن تفسير تبرير رفع سعر الفائدة على أساس التزامن في الوقت الذي تشير فيه المعطيات الموضوعية إلى عدم الزيادة في نسبة هذه الفائدة خدمة للاقتصاد الوطني؟ ماذا حدث بين يونيو وشتنبر ليتخلى البنك عن تحليله الموضوعي للوضع الاقتصادي؟ ما معنى التزامن بالنسبة لبنك مركزي لبلد في طريق النمو؟ هل استسلم البنك لضغوطات خارجية لتغيير موقفه؟ الأرجح أن هذا ما حدث خاصة إذا علمنا أن بنك المغرب يتقاسم والمؤسسات المالية الدولية نفس الفكر في تدبيره للتضخم، وفي سنه لسياسته النقدية عامة. على هذا الأساس، فاستقلاليته عن الحكومة لا مبرر لها مادام هو الآخر ليس بمنأى عن الضغوطات ومادام لا يحسن تدبير التضخم غير النقدي مثله مثل الحكومة.
لهذا لابد من إعادة النظر في المرجعية الفكرية الداعية إلى استقلالية البنك المركزي ومراجعة التضخم كإحدى أولويات هذه المؤسسة لاستبداله بأولوية تكون في متناوله ويكون لها الوقع الحسن على المستويين الاجتماعي والاقتصادي كمحاربة البطالة أو تطوير الاقتصاد الأخضر. إن التمادي في التشبث بهذه المرجعية التي أثبتت أزمة 2008 وجائحة كورونا 19 قصورها والتي أظهرت محدوديتها في التصدي للتضخم غير النقدي، قد تكون له عواقب وخيمة وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. فالبنوك المركزية بإصرارها على الالتزام بمرجعية أكد الواقع عدم صلاحيتها لن تزيد الأمور إلا تعقيدا. وهذا ما لوحظ برفعها لنسبة الفائدة المديرية حيث إن عدد الدول التي توجد في وضعية الانقطاع عن أداء ديونها انتقل من 22 سنة 2022 إلى 52 حاليا هذا، دون الإشارة إلى أن مثل هذا الإجراء قد يطعم التضخم أكثر من أن يحد منه. ففي المغرب مثلا، تعمم ارتفاع الأسعار ليصبح تضخما. والملاحظ أن هذا التضخم لم يأت على القوة الشرائية فقط بل تعداها لتسريع وثيرة تآكل النوابض الاجتماعية التي تشكل شبكة الأمان الاجتماعي.
2 - التضخم وتآكل النوابض الاجتماعية
بتشكلها لشبكة الأمان الاجتماعية، تساهم النوابض الاجتماعية في الحفاظ على التوازن الأسري وتدعيم التماسك الاجتماعي وتكريس الاستقرار المجتمعي. لهذا فأي مساس بها قد يخل بالتوازن الأسري وقد يحدث تصدعا في التماسك الاجتماعي ليعرض بالتالي المجتمع إلى عدم الاستقرار. لهذا، فمهما كانت الكلفة الميزانيتية لصيانة هذه النوابض مرتفعة، فإنها ستظل أقل بكثير من كلفة إضعاف هذه النوابض ومن إتلاف شبكة الأمان الاجتماعية. لهذا، لا خِيار للدولة غير التصدي للتضخم حتى لا يأتي على هذه النوابض. فإذا كان المغاربة قد أظهروا إلى حد الآن نوعا من التجلد على ما يعانونه من تراجع في قوتهم الشرائية وأبانوا عن قدرة تحمل غير مسبوقة فلأنهم وجدوا في هذه النوابض ما ساعدهم إلى حد بعيد على التحمل خاصة بعد ما يناهز 30 سنة من استقرار في الأثمنة. لكن هذا التحمل لا يمكنه الاستمرار باستمرار تآكل النوابض الاجتماعية. لهذا، لابد من الإسراع في إلجام التضخم حتى لا يضيع المغرب عن أنفسه امتيازه المقارن الذي ينفرد به بمنطقته والمتمثل في الاستقرار والتوافق الموضوعي لقواه الحية.
من أهم هذه النوابض، هناك خمسة سنأتي على دكرها الواحد بعد الآخر.
1- نظام المقاصة
في البداية لابد من التأكيد على أن المقاصة لا تعني الدعم. فهي لا تستند إلى الميزانية العمومية ولكن تعتمد ميكانزيم العدال للحفاظ على توازنها و ذلك على أساس تعويض متبادل بين المواد التي تشملها المقاصة. فالفائض الذي تسجله بعض المواد يحول لتغطية عجز البعض الآخر. في حالة ما إذا سجل النظام فائضا فيحتفظ به تحسبا لأي خصاص محتمل. ويعود هذا النظام، المكون من صندوق المقاصة والمكتب الوطني للحبوب والقطاني، إلى عهد الحماية التي وظفته لصالح المعمرين. وفي السبعينيات من القرن الماضي، قامت الدولة بإصلاحه لدعم الإنتاج المحلي خاصة منه إنتاج السكر والحبوب وتحقيق الاكتفاء الذاتي من بعض المواد الحيوية كالحليب وزيت المائدة. فلتوفير صناعة سكرية مثلا وتطويرها، كان لابد من حمايتها مقابل تفعيل المقاصة للحفاظ على القوة الشرائية للمواطن في وقت كان فيه ثمن السكر في السوق الخارجي أرخص من السكر المنتج داخليا. في نفس الاتجاه، دعم الفلاح المنتج للحبوب استوجب تدخل المقاصة للحفاظ على ثمن الخبز في مستوى لا يضر بالقوة الشرائية للمواطن. هذا النظام الذي انفرد به المغرب في منطقته لم يوجد إذن لدعم الفقراء كما يدعي الكثيرون وكما روجه الخطاب الرسمي ولازال بإيعاز من صندوق النقد الدولي الذي استغل العجز الذي عرفه صندوق المقاصة نتيجة تضريب مواده بعد الإصلاح الضريبي لسنة 1986 خلافا للمكتب الوطني للحبوب والقطاني الذي ظل رصيده إيجابي إلى أن امتصته الخزينة.
وجدت المقاصة لتحقيق هدفين أثبتت الجائحة مدى أهميتهما الاستراتيجية ألا وهما دعم الإنتاج المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي. فلو استمرت الدولة المغربية على نفس المنوال الذي اعتمدته عند إصلاحها لنظام المقاصة لكان المغرب اليوم في وضعية أحسن. فعجز صندوق المقاصة جاء نتيجة تخلي الدولة عن المنهجية الاقتصادية الاجتماعية لصالح المنهجية المحاسبتية. هذا التخلي حول المقاصة إلى منبع ريع بالنسبة لمنتجي ووسطاء المواد التي تشملها المقاصة.
وبدل إصلاحها من الداخل للقطع مع الريع والالتزام بمفهومها الصحيح ومضمونها الإيجابي، شرع في تفكيكها خاصة بإخراج المحروقات من مضمارها دون أي إجراءات مصاحبة، والنتيجة ما نعيشه الآن من تضخم وما عايناه منذ فترة من جشع شركات التوزيع. سيقول قائل كيف للميزانية أن تتحمل ما لا طاقة لها به. كان بالإمكان الاسترشاد بالطريقة الناجعة التي دبر بها المغرب الجائحة (الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا 19) والتي ثمنها الجميع، كما كان من الممكن الاستئناس بالسياسة النقدية غير التقليدية التي اتبعتها بعض الدول المتقدمة لدعم الاقتصاد والتصدي للخصاص الاجتماعي. ماذا كان سيحدث لو رفعت الحكومة يدها عن البوطان؟ إن الدعوة إلى حقيقة الأثمنة في المطلق التي تسوغها المؤسسات المالية على شكل توصية، دعوة ملغومة ليس فقط لأن الجائحة أثبتت محدودية السوق ولكن لأنها دعوة غير بريئة تقوم على تفضيل التوازنات الماكرواقتصادية التي لها طابع محاسبتي على حساب التوازنات الاجتماعية والمجتمعية التي لها طابع إنساني دون مراعاة الواقع المَعِيش.
حتى وإن كانت هاته الدعوة التي تتسم بالدغمائية تدخل في إطار الإكراهات الخارجية، فهذا لا يشفع للحكومة التزامها بها مادامت لا تخدم التماسك الاجتماعي ولا تراعي المصلحة العليا للبلاد المتمثلة في الاستقرار بالدرجة الأولى. فالمؤسسات الدولية المالية ليست قدرنا حتى نجعل منها سيف ديموقليس. لقد أثبت المغرب قدرته على الوقوف الند للند أمام دول كانت البارحة تبتزه وأكد صحة ما جاء على لسان المتنبي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".فما الذي يحيل دون تمديد تقوية قدرته التفاوضية لتشمل المؤسسات الدولية المالية خاصة وأن ما يعاب على هذه المؤسسات وما يحسب عليها هو أكثر بكثير مما يحسب لها؟
2 - تعدد مصادر الدخل
أثار انتباهي قدرة الفئات المتوسطة على التحمل خلافا لنظيراتها في بعض الدول كفرنسا. ففي هذه الدولة الأوروبية دفع ارتفاع أسعار المحروقات الفئات المتوسطة إلى تغيير سلوكها وإعادة النظر في عاداتها الاستهلاكية. في هذا الإطار، تخلت شرائح كبيرة منها عن السيارة الشخصية لصالح "السيارة التشاركية" والنقل العمومي والدراجة الهوائية وتروتينت، بينما حافظت الطبقة الوسطى المغربية على سلوكيات ما قبل ارتفاع ثمن المحروقات. يكفي للمرء الوقوف على قارعة الطريق ساعة دخول أو خروج الأجراء من مقرات عملهم ليلاحظ كيف أن معظم السيارات لا يركبها إلا السائق. قد يقول قائل بأن هذا السلوك قد يعود إلى ضعف النقل العمومي وربما إلى إعادة ترتيب الأولويات. قد يكون الأمر كذلك، لكن الظاهر أن السيارة بالنسبة للفئات المتوسطة ليست وسيلة للنقل فقط بل إنها مؤشر على الوضع الاجتماعي في مجتمع يولي الأهمية للمظهر أكثر منه للجوهر. فالمغربي قد لا يرى أي حرج في التخلي عن السلوك العقلاني إذا كان هذا السلوك لا يخدم مظهره. لهذا، كثيرا ما يلجأ إلى البحث على مصادر دخل تكميلي لتغطية ضعف دخله الرئيس وللاعتناء بمظهره....