عرضت القناة الثانية شريطا سينمائيا بعنوان: (مول البندير)، يحكي في تيمته الرئيسة، قصة رجل تعليم وهو يواجه متطلبات الحياة اليومية، ويعارك مشاكلها ومعوقاتها التي لا تنتهي، إلى أن انتهى به المطاف فنانا شعبيا، يحمل البندير، ويجوب به العالم، محققا الكثير مما ظل عاجزا عن تحقيقه وهو أستاذ يقدم دروسه إلى تلامذته.
بالطبع، المناقشة الفنية الدقيقة للشريط، تتأتى من خلال عرض عناصره كاملة، والبحث فيها جميعا، بدءا من الفكرة، ثم السيناريو، فالأداء الفني للشخصيات، وانتهاء بالإخراج، ثم التلقي، وكل عنصر من هذه العناصر يتطلب بحثا متخصصا، وفق قواعد النقد الفني والسينمائي. بالنسبة إلي ما سيهمني الإشارة إليه هو، صورة رجل التعليم في الشريط، وأتصور مبدئيا _ من منظوري المتواضع _ أن (مول البندير ) يروم طرح سؤال (صورة الأستاذ / الأستاذة ) داخل مجتمع متخلف، لا يعترف بالقيمة الرمزية للمعرفة، ولا لناقلها، وأيضا سؤال الفن، والفن الشعبي بخاصة، في علاقته بصورة الفنان الشعبي في مخيلة المتلقي، كل هذا تم نسجه في قالب فني سينمائي، يعرض معاناة الأستاذ / البطل، الأستاذ / الفنان، من خلال مشاهد يمتزج فيها الدرامي بالكوميدي.
نقرأ في (مول البندير) محاولة ذكية لإثارة موضوع جدير بالإثارة، من خلال التركيز على بعض ما يعانيه رجال ونساء التعليم واقعيا، بعيدا عن النقاشات النظرية المستهلكة، حول المناهج والبرامج ولغة التدريس وغيرها. إنها الحياة بقتامتها، وقساوتها التي تضطر الكثير من رجال ونساء التعليم إلى البحث عن مخارج مؤلمة أحيانا، عبر ممارسة أعمال وأنشطة كان من المفروض أن لا يضطروا إليها، بما هم أصحاب رسالة علمية وتربوية، وهذا هو مجالهم الذي يجب أن يعيشوا به، وله طول حياتهم، وأن لا يضطروا إلى غيره، ليس لأن المجالات الأخرى بلا قيمة معتبرة، وإنما لأن لكل مجال عالمه وتخصصه، وفي هذه النقطة بالضبط، يلاحظ أن (مول البندير ) لم يكن موفقا، فمغادرة التعليم، والبحث عن مخرج للإشكالات المادية للأستاذ/ة، عبر الالتحاق بمجال آخر، المفروض أن له أهله وأصحابه، هذا ليس حلا، بل هروبا إلى الأمام، ومساهمة في المزيد من التشويش على مشكل التعليم وما يعانيه رجاله ونساؤه من حيف.
الفكرة من حيث المبدأ تبدو جيدة، ولكن مخرجاتها تتطلب نقاشا دقيقا ومضبوطا، فرجل التعليم يجب أن يكون مكتفيا، اكتفاء كاملا، حتى يقوم بأدواره المعرفية والتربوية كاملة، وأدواره هي: الحرص على تكوين نفسه باستمرار، عبر المطالعة الدائمة، والمتابعة المستمرة لمجمل القضايا والأفكار التي تعتمل داخل مجتمعه، والمساهمة في إنتاج الأفكار الناجعة والجميلة والإيجابية والبناءة، عبر الكتابة والمحاضرة والنقاش الهادف، المساهمة الجادة والمسؤولة في تكوين وتأطير تلامذته، بما يفيدهم فكريا وتربويا، المساهمة في تأطير المجتمع بما يرفع من منسوب الوعي الثقافي والسياسي للمواطنين، بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، أليس هذا كافيا وزيادة، ويستغرق عمر الأستاذ/ة كاملا. إن مشكلة التعليم، وضمنها مشكلة رجاله ونسائه، يجب أن تجد حلها داخل منظومة التعليم، عبر تفكيك عناصرها جميعا، ووضعها على الطاولة، واحدا واحدا، فمشاكل التعليم تعالج في التعليم، وبالتعليم، احتراما وتقديرا للتعليم وأهله، كما أن مشاكل الفن الشعبي تعالج في الفن الشعبي، بأهل هذا الفن الجميل، فليس في الأمر أي منقصة، بل دعوة إلى احترام التخصصات والمجالات، وتقديرها جميعا.
إن الاحتفال برجال ونساء التعليم، والانكباب الجدي على مشاكلهم، لإيجاد حلول حقيقية لها ، إنما هو احتفال بتيار الوعي واليقظة والضمير داخل المجتمع، وأي خلط أو تشويش يطال قضايا التربية والتعليم، ومنها قضايا رجاله ونسائه، إنما هو سعي، بوعي أو بغير وعي، إلى تقويض الصورة المثلى والجديرة برجال ونساء التعليم. شكرا للأستاذ المخرج إبراهيم الشكيري، ولمجموعته على هذا الإنجاز الفني الجيل. الذي أثار مواجع التعليم، ومن منظور آخر مختلف.






