من أفضال الله عليّ نشأتي على يد أم بدوية من الرحّل..هذا ليس مدخلا وجدانيا، بل خلفية معرفية لما سأكتب.
ففي ثقافة الرحل التعامل مع الطبيعة ليس تأملا بل مسألة بقاء. و إحدى القواعد الأساسية التي تعلمتها مبكرا《الماء يعود دائما إلى مجراه》ومن يبني في المجرى يعرض نفسه للخطر. هذه ليست حكم شعبية فقط إنما معرفة عملية تشكلت عبر أجيال من الاحتكاك المباشر بالطبيعة و أدركت قوانين الماء..
ما وقع في آسفي يؤكد هذه القاعدة بوضوح. المدينة غرقت لأن التخطيط العمراني تعامل مع المجال وكأنه محايد، بينما هو مجال له تاريخ هيدرولوجي معروف. الأودية التي جفت لسنوات لم تختف، بل بقيت مسجلة في تضاريس الأرض. عند أول ضغط مائي قوي، استعاد الماء مساراته الطبيعية، بغض النظر عما أُقيم فوقها من طرق أو مساكن.
السبب الجوهري لما حدث لا يكمن في كمية التساقطات وحدها، بل في ضعف إدماج المعطى الهيدرولوجي في القرار العمراني. التوسع الحضري سبق تجهيز البنية التحتية، وشبكات تصريف المياه لم تُحدَّث بما يوازي الامتداد العمراني. بعض المناطق المنخفضة استُغلت للسكن أو النشاط دون اعتبار لقدرتها المحدودة على تصريف السيول. هذه اختيارات معروفة النتائج في علم تدبير المخاطر.
هناك أيضًا خلل في طريقة تدبير الخطر نفسه. في الممارسة، يتم التعامل مع السيول كحوادث استثنائية، بينما هي في الواقع مخاطر متكررة في مجالات محددة. هذا التصنيف الخاطئ يجعل التدخل يأتي بعد الفاجعة، لا قبلها. الخرائط والدراسات التقنية موجودة، لكن تفعيلها يصطدم غالبا باعتبارات اجتماعية واقتصادية، فيؤَجل المنع، وتُخفف القيود، ويُراهن على أن الأسوأ لن يقع.
ما حدث في آسفي لا يمكن حصره في فشل تقني، هذا فشل في ترتيب الأولويات. حق السكن طُرح أحيانا بمعزل عن حق السلامة، وكأنهما خياران متعارضان، بينما هما في الواقع مترابطان. السكن في مجال غير آمن ليس حلا اجتماعيا، بل نقلا للخطر من لحظة البناء إلى لحظة الفاجعة.
واقع الحال تفسيره بسيط ولا يحتمل الزخرفة:::
غرقت آسفي لأن الماء عاد إلى مجراه الطبيعي، و التخطيط لم يحترم هذا المعطى، و تدبير المخاطر ظل قائما على ردّ الفعل بدل الاستباق. ما لم يُعالج هذا الخلل البنيوي، ستظل الفواجع قابلة للتكرار، بنفس المنطق، وفي أماكن أخرى.
هذا ليس خطاب حزن و لا أسعى للمبالغة أو الركوب على انتفاضة الطبيعة إنما هو تشخيص لواقعة متوقعة.
و لن أوجه الاتهام لجهة معينة ، قدمت وصفا مبنيا على معطيات معروفة " النعام لا يختفي حين يدس رأسه في الرمل، ذاك وهمه لا منظورنا" ..وإذا كان من درس، فهو أن الطبيعة تسخر من البلاغات بعد الكارثة، و تنتظر مواجهتها بالقرارات الصارمة قبل انتفاضتها القادمة...






