لماذا تضرب قطر المغرب في الخفاء؟
الدوحة تراهن على الجزائر لمضاعفة أرباحها من خلال الحديد و الصلب في "غار جبيلات" و"مركب بلارة".
كيف تُحصّن قطر تحالفها الاقتصادي مع الجزائر بأكثر من 7 مليارات دولار؟
لنتابع بتركيز.
مدخل لا بد منه :
هذا المقال مبني على معلومات دقيقة. وليس على استنتاجات عشوائية.
إن الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وقطر هي شراكة صامتة، لكنها عميقة، وتتجاوز الإطار السياسي التقليدي، وتُرسّخ وجودها عبر استثمارات ضخمة تضع قدم الدوحة في قطاعات حيوية، من التنقيب عن الغاز وصولاً إلى صناعة الصلب الثقيلة والرهان على الأمن الغذائي.
الرهان الأكبر لقطر يكمن في إنجاح الاندماج بين مركب بلارة للحديد والصلب ، والاستغلال المستقبلي لمنجم غار جبيلات، مما يضمن لقطر شريكاً يتمتع بـقدرة كبيرة على توفير دورة الإنتاج المتكاملة من المنجم إلى السوق، وهي سلسلة قيمة متكاملة يصعب فكها .
مُركب بلارة للصلب هو في ملكية الشركةالجزائرية-القطرية للصلب (AQS).
ويقع في المنطقة الصناعية بلارة، ببلدية الميلية، ولاية جيجل، شرق الجزائر، قرب ميناء جن جن بمدينة جيجل، مما يسهل عمليات استيراد المواد الأولية وتصدير المنتجات النهائية.
يمتد المركب على مساحة شاسعة تبلغ حوالي 216 هكتاراً. وقد قُدرت التكلفة الإجمالية لإنجازه بنحو 2.2 مليار دولار أمريكي.
تمتلك شركة "قطر ستيل إنترناشيونال"
(QSI)
، التابعة لشركة قطر للتعدين، حصة تبلغ 49% من الشركة الجزائرية القطرية للصلب
(AQS).
يعتبر مشروع مُركب بلارة أكبر مشروع استثماري عربي مشترك في الجزائر.
فاستثمار قطر فيه يندرج في سياق رؤية استراتيجية قطرية لتنويع مصادر أرباحها في مجال صناعة الصلب (الفولاذ)، مما يعزز تموقعها كلاعب رئيسي في المعادن واللوجستيات، إلى جانب استثماراتها المالية الاستراتيجية في قطاعات أخرى كصناعة السيارات الألمانية، وتحديداً مجموعة فولكسفاغن
(Volkswagen Group)
حيث يمتلك جهاز قطر للاستثمار حصة تقارب 17% من حقوق التصويت في هذه المجموعة، وهي حصة تُعد من أهم استثمارات قطر في أوروبا.
مُركب بلارة للحديد والصلب، يُعد من الاستثمارات القطرية الضخمة، والرهان المستقبلي لهذا الاستثمار هو ربط هذا المركب بخام منجم غار جبيلات في تندوف بالجزائر، لضمان تدفق مستدام للمادة الخام بتكاليف أقل، وتحصين الاستثمار القطري في بلارة ضد تقلبات أسعار الخام العالمية.
هذا المشروع الاستثماري القطري في الجزائر هو فقط جزء من استثمارات قطرية أخرى في الجزائر، وهي تُعتبر من أضخم الاستثمارات العربية البينية في القطاعات الاستراتيجية، حيث تُقدر القيمة الإجمالية للمشاريع المشتركة والحصص القطرية بأكثر من سبع مليارات دولار.
ففي مجال الطاقة والتنقيب عن الغاز والنفط، لدى قطر استثمارات رئيسية في الجزائر تندرج ضمن شراكات متعددة مع مجموعة "سوناطراك" الجزائرية لتطوير حقول الغاز والنفط، وذلك بهدف تعزيز مكانة قطر في سوق الطاقة العالمية من خلال تنويع مصادر الغاز الطبيعي المُسال.
وفي مجال الزراعة هناك مشروع الشراكة القطرية الجزائرية مع شركة "بلدنا" القطرية للأمن الغذائي، التي قامت باستثمار ضخم يُقدر بنحو ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار في مشروع "بلدنا"، وذلك لتأمين احتياجاتها من المواد الغذائية الأساسية خاصة الحليب والأعلاف عبر إقامة مزارع ضخمة في مناطق الجنوب الجزائري، بحكم أن مساحة قطر صغيرة وتحتاج إلى أراضٍ شاسعة لإقامة هذا المشروع وهو ما وفرته لها الجزائر.
بالنسبة إلى مركب بلارة للحديد والصلب، من أجل نجاح متطلبات الشراكة القطرية الجزائرية، وتحقيق أهداف هذا المركب، خاصة بعد التوسع لإنتاج 4 ملايين طن سنوياً، فإن الأمر يتطلب تأمين سلسلة لوجستية متكاملة تبدأ من الخام وتنتهي عند التصدير البحري.
ويبدو جليا أن نجاح هذه الشراكة يتوقف أولا على منجم غار جبيلات، الذي يُعد ضامنا لتحقيق الأرباح القطرية.
فالمواد الخام لغار جبيلات من شأنها أن تضاعف الأرباح للشريك القطري من خلال خفض تكاليف التشغيل بشكل جذري، وهو ما سيحول مركب بلارة إلى مصنع ذي تنافسية عالية جداً إقليمياً.
ولتحصين عائدات تصدير إنتاجات مركب بلارة، هناك ضرورة قصوى لإدارة الموانئ.
وهذه حقيقة اقتصادية جلية.
لضمان تحصيل العائدات المادية المرجوة من استثمار مليارين من الدولارات في مركب بلارة، يجب تأمين كفاءة لوجستية للمنتج النهائي.
إن طاقة التصدير في هذا المركب التي تتجاوز مليوني طن سنوياً لا يمكن أن تعتمد على أي بنية تحتية مينائية دون تطوير وإدارة متخصصة.
لذلك، فإن الخطوة الاستراتيجية الحتمية، هي اللجوء إلى خبرة الشركة القطرية كيوتيرمنلز
(QTerminals)
في تشغيل وإدارة الموانئ، إذ يصبح ضرورياً أن تتدخل قطر عبر الشراكة في إدارة أو تطوير البنية التحتية المينائية التي تخدم المركب، وعلى رأسها ميناء جن جن في جيجل.
فشركة "كيوتيرمنلز" هي التي تدير ميناء حمد في الدوحة، ولها استثمارات في ميناء روتردام بهولندا، حيث تمتلك حصة أغلبية في مجموعة "كرامر" اللوجستية في هذا الميناء وهو أكبر ميناء أوروبي، كما تدير ميناء أكدينيز أنطاليا بتركيا، وميناء أوليفيا بأوكرانيا.
إن قطر تركز اهتمامها على ضمان التحكم الكامل في سلسلة القيمة المتعلقة بمركب بلارة في الجزائر ، بدءاً من المادة الخام بغار جبيلات وصولاً إلى تصدير المنتج النهائي الذي هو الصلب، وتأمل أن يتم ذلك بسرعة، مما يحصن الاستثمار المشترك من الاختناقات اللوجستية التي قد تضرب الأرباح.
وهذه الخطوة هي نتيجة لمسار تفاوضي بين قطر والجزائر بدأ منذ نوفمبر 2021 بتوقيع بروتوكول تعاون بين وزيري النقل الجزائري والقطري، بهدف تشجيع الاستثمار المشترك في مجال النقل البحري والموانئ، ثم تبعت ذلك زيارات وفود فنية خلال 2022 و 2023 لتقييم الاحتياجات المباشرة لميناء جن جن في جيجل، مما يؤكد أن الاستثمار في الموانئ الجزائربة بالنسبة إلى قطر هو خطوة استراتيجية مدروسة لضمان التحكم في سلسلة القيمة من منجم غار جبيلات إلى التصدير.
كل هذه المؤشرات تشير إلى أن التحالف القطري الجزائري هو تحالف يُراد له ألا يقبل الفشل.
فبعد ضمان الاستثمار في الإنتاج بمركب بلارة وضمان المورد من غار جبيلات، يصبح تأمين اللوجستيات في الموانئ خطوة حتمية لضمان تحويل الإنتاج الضخم إلى أرباح حقيقية ومستدامة لكلا الطرفين، مما يعزز من قوة ومكانة هذا التحالف الإقليمي.
السؤال الاستراتيجي اليوم هو:
أين تكمن مصالح قطر الحقيقية؟
هل مع المغرب أم مع الجزائر؟
في إطار التحليل الاستراتيجي البراغماتي، تُقيَّم مصالح قطر في أي بلد بناءً على حجم الاستثمار ونوعيته، هل هو استراتيجي وطويل الأمد كما هو الحال مع الجزائر، أم مالي مرن وقصير الأمد كما هو الحال مع المغرب .
وبمقارنة المعطيات المتاحة، يمكن استنتاج أن المصالح المادية والاستراتيجية لقطر في الجزائر هي حالياً أكثر عمقاً وحيوية مقارنة بالمغرب.
فالمصالح القطرية في الجزائر تتركز في استثمارات ضخمة تتجاوز 7 مليارات دولار أمريكي، وهي مصالح ذات طابع استراتيجي وطويل الأجل وغير قابلة للتصفية السريعة. والاستثمار موجه لقطاعات مرتبطة بالموارد الطبيعية الجزائرية، مثل الصناعة الثقيلة المتمثلة في مركب بلارة للحديد والصلب بأكثر من 2 مليار دولار، وهو مشروع صناعي متكامل يهدف إلى ربط إنتاجه بخام غار جبيلات لضمان تدفق الخام بتكلفة تنافسية، زيادة على شراكات استراتيجية بين قطر والجزائر في مجال الطاقة والتنقيب عن الغاز والنفط، وكذا استثمار بقيمة 3.5 مليار دولار في مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب في الجنوب.
هذه الاستثمارات تحول قطر إلى شريك صناعي رئيسي يمتلك أصولاً ضخمة غير منقولة في الجزائر ، وتوفر لقطر ضمان إمداد عالٍ في مواد حيوية مثل الصلب والطاقة والغذاء.
وهذا الارتباط العميق يتطلب دعماً سياسياً لضمان استقرار النظام الجزائري وحمايته على المدى الطويل.
إن المصالح المادية والاستراتيجية لقطر تفرض عليها أن يكون رهانها الأعمق على الجزائر، نظراً للارتباط الحيوي بسلاسل إمداد الطاقة والصلب والأمن الغذائي، لذلك، فمن الطبيعي أن تكون قطر لاعبا أساسيا في معترك الصراع بين الجزائر والمغرب، وأن تكون لها يد في تحريك هذا الصراع لفائدة الجزائر، في جميع المجالات.
وهذا ما كان.






