كان يُفترض أن يشكل عطبُ لجنة الأخلاقيات في المجلس الوطني للصحافة مناسبةً لإعادة التفكير في جوهر الأزمة البنيوية التي تخنق الحقل الإعلامي، انفجر النقاش العمومي كما لو أنه فضاءٌ للتنفيس وللعراك لا للمساءلة. بدل أن يذهب الجدل نحو الأسئلة العميقة: استقلالية المؤسسات، أخلاقيات المهنة، موقع الصحافي ووظيفته، مستقبل التنظيم الذاتي للمهنة، انحدار القيم في الممارسة الإعلامية... انحرف نحو خصومات شخصية صغيرة، تُدار بمنطق الغنيمة والخسارة، وكأن كل طرف يخوض معركة مواقع لا مراجعة منظومة.
هكذا تراجع سؤال الإصلاح أمام طوفان من الذاتيات والانتقامات، وأصوات تبحث عن فرجوية اللحظة أكثر مما تبحث عن الحكمة. حتى أصبح الحدث، رغم حجم خطورته، مجرد مادة للاستهلاك السريع: صراخ يعلو ويخبو، لكنه لا يؤسّس لشيء.
والمؤلم أن ما كان يمكن أن يتحوّل إلى لحظة تأسيسية: إضاءةٌ على حدود النموذج القائم، وفهمٌ للخلل في العلاقة بين المسؤولية وأخلاقيات المهنة، وإعادة بناء الثقة بين الصحافي ومجتمعه.. انطفأ داخل ضباب صراع المواقع. فالمشهد العمومي، حين يُدار بهذه الروح، لا ينتج نقاشًا بقدر ما يصنع ضجيجًا لا يبني وعيًا عقلانيا ولا حسا نقديا وإنما فقط يعمّق الهوة بين الناس ومؤسساتهم.
إن الأنانيات المتورّمة تُجهض أي تفكير في المستقبل، لأن كل طرف يجرّ اللحظة إلى مقاسه الضيق، ويستثمر الأزمة لرفع موقعه أو ضرب خصومه، بينما القضية الحقيقية -جوهر الأزمة وسبل إصلاحها- تظل بلا صوت. وهكذا يئد الصراعُ غير العقلاني إمكانَ التعقّل، ويخنق ما كان يمكن أن يكون بداية لنقاش رصين يُحرّر الإعلام من هشاشته البنيوية بدل أن يعيد إنتاجها.






