منذ زمن ليس ببعيد، كان عمل الصحفي يبدو بسيطًا وواضحًا: نقل الخبر كما هو. جملة قصيرة، تصريح مدوٍّ من مسؤول كبير، أو حتى تهمة خطيرة تُطلق في قبة البرلمان.
كنا نظن أن الأمر لا يتعدى فن الاستماع الجيد والكتابة الدقيقة والأمانة في النقل. يا لسذاجتنا! المهمة أكبر من ذلك، إذ علينا فك شفرات ما وراء التصريح.
بعد واقعة "طحن الورق" الشهيرة، وما تلاها من تراجع "مجازي" لرئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب، أحمد التويزي، واتهامه الصريح للصحافة بـ"البحث عن البوز"، يجب علينا أن نضع "الورق" جانبًا ونبدأ في "طحن" العقول.
لقد سقط القناع عن مهنة الصحافة البالية، واتضح أننا كنا نعمل بوصفنا مجرد آلات تسجيل، في حين أن البرلماني يتحدث بلغة لا يفهمها إلا هو، ولغة تتطلب جيشًا من المحللين اللغويين والنفسيين.
الأمر لم يعد يتعلق بما قاله البرلماني، بل بما قصد أن يقوله. فتصريحاتهم لم تعد حقائق، بل هي ألغاز مجازية تتطلب مفتاح "سري" للحل.
تصوروا المشهد: يجلس الصحفي الآن أمام شاشة حاسوبه، لا لتدوين ما قيل، بل ليحلل ما وراء ما قيل ومتى قيل والحركات الجسدية التي رافقت لحظة قوله.
أصبحت لدينا لغة مختلقة فرضت توفر مدرسة جديدة للصحافة، وعلى كل مؤسسة إعلامية جادة أن تعيد النظر في هيكلها الإداري، وتضيف أقسامًا جديدة ضرورية:
- قسم تحليل النبرة والتعابير الجسدية (Tone & Body Language Analysis Unit): لتحديد ما إذا كان البرلماني يقول "نعم" وهو يعني "لا"، أو "طحن الورق" وهو يقصد شيئا آخر لم يكشفه لنا التويزي بعد.
- شعبة التفكيك اللغوي والمجازي: مهمتها وضع قاموس برلماني جديد، بحيث تكون كلمة "ورق" مرادفة لكلمة "تزوير"، أو أي شيء آخر يروق لهم لاحقًا.
- هذا دون إغفال إلزام الصحفي بدورة تدريبية مكثفة في قراءة الأبراج! فربما يكون تفسير التصريح مرتبطًا بوضع كوكب المريخ في لحظة إلقائه.
نتفق مع التويزي أن "البوز" هو هدف الكثيرين، لكن ألا يرى أن التصريح المباشر والخطير هو منبع "البوز" الأول؟ عندما يقول في سياق حديثه عن الدقيق المدعم عبارة "كاين اللي كيطحن غير الوراق" بشكل مباشر، ثم يعود ليؤكد أنه "مجاز لغوي" يعني التلاعب في الوثائق، فهو من زرع البوز وحصده ولفّه ووضعه في علبة تحمل اسمه!
إذا أصبحت القاعدة هي التعبير عن التلاعب في الوثائق بعبارة "طحن الورق"، فعلينا أن نستعد لـ:
"طبخ الصخور في الميزانية" (بمعنى: تبذير الأموال).
"بناء سدود من العلكة" (بمعنى: مشاريع فاشلة).
"زرع السكاكين في قلوب المواطنين" (بمعنى: زيادة الضرائب).
وداعا لمهنة لم تكن تتطلب سوى قلم ودفتر مع عقل فطن وضمير سليم، ومرحباً بمهنة تتطلب مجهود عراف لتحويل الكلام الحرفي إلى نية خفية.
فلنترك الخبر المباشر لأهل البداهة، ولنستعد لمعركة التفسير والتحليل النفسي واللغوي، فنحن الآن في حضرة فلاسفة البرلمان، وليس مجرد مُشرّعين.






