حينما يطرح البعض سؤالا من قبيل "هل يمكن للشخص أن يكون محايدا أكسيولوجيا اتجاه ما يفترض أنه موضوعا علميا، فإنه يضع منظومتين غير متجانستين وجها لوجه؛ منظومة إيتيقية عملية في مقابل منظومة علمية نظرية. ولأنهما منظومتان غير متجانستين في المنطلقات والنتائج، فإنهما تظلان غريبتين عن بعضهما البعض، ولا يمكن لإحداهما أن تدحض الأخرى؛ لذلك يشعر كل من يحاول أن يبت في هذا الموضوع بصفته ذاتا اجتماعية أو سيكولوجية بالفشل، وبأن الحياد الأكسيولوجي مستحيلا؛ فينتهي في الأخير، بطريقة بئيسة، إلى إقرار تكافؤ العلم واللاعلم، وتكافؤ منطق النظر ومنطق البشر.
إنني حينما أطرح مسألة الحياد الأكسيولوجي، فإنني أطرحها في عقر دار المنظومة النظرية، في العلاقة مع قدرة هذه المنظومة على استيعاب موضوع القيم، بعد تخليصه وتطهيره طبعا من شوائب وعناصر المنظومة العملية من حيث هي آداب وقواعد معاملات لا نسقا نظريا. وإذن، فإن ما أطرحه هو بعيد جدا عما فهمه المنتقدون طلابا وأساتذة؛ فأنا عندما طرحت مشكلة الحياد الأكسيولوجي، لم أكن أعني حياد شخص بوصفه ذاتا سيكولوجية أو اجتماعية أمام العلم، فهذا لا يستقيم طرحه داخل العلم، لأنه ليس من صلبه، بل هو نتيجة لمحاولة مزج ما لا يمتزج، مزج الداخل بالخارج، بل كنت أعني وجوب الخوض في شروط تعريف موضوع القيم في مواجهة بنية المعرفة، والأسئلة المثارة ههنا هي أسئلة من قبيل: "كيف نعرف موضوع القيم دون أن نضطر إلى مغادرة منظومة المعرفة وبنيتها؟ هل يمكن أن نقيم دوما في بنية المعرفة، ونحن نثير موضوع القيم؟
هذه الأسئلة إبستيمولوجية في العمق، وهي كذلك لأنها لا تختزل إلى منهج خاص بمعالجة موضوع بعينه، بل ترتبط بالمنهج العام الذي يوافق الاشتغال بالقضايا العامة التي تثيرها بنية المعرفة في حقبة زمنية معينة.
لم يكف بياجي على تذكيرنا، في هذا الصدد، بأن رباطا حميميا يوجد على الدوام بين موضوع المعرفة وبنيتها، فأما بنيتها فيخوض فيها المنهج الإبستيمولوجي العام الذي نحتكم إليه في تقرير فيما إذا كان منهجا خاصا بمعالجة موضوع مخصوص يلتزم ببنية المعرفة. ولعل هذا هو الضامن الوحيد كيما نعالجه دون أن نغاذر المنظومة العقلية، أي المنظومة النظرية. ولعل هذا أيضا ما عنيته عندما قلت أن المسافة الموضوعية، في أحد دروسي الافتتاحية، لا معنى لها من دون الإقامة داخل نظرية؛ لأن القول بذلك يعني ببساطة السماح باختلاط حجج البشر بحجج النظر.
إن المشاكل التي أطرحها في حديثي عن الأساس الأكسيولوجي هي مشاكل بدون ذات فعلية امبريقية (سيكو- اجتماعية) فالمرجو عدم إقامة ذواتكم البئيسة في موضوع لا يحتملها.
جمال فزة






