رأي

برعلا زكريا: حين تغيب الصحافة وتحضر "الحلقة"

بعد تأييد محكمة الاستئناف بالرباط للحكم الابتدائي الصادر في مواجهته، اختار حميد المهداوي بناء سردية موازية، لا علاقة لها بالوقائع القانونية التي أدين بموجبها. فبدلا من مناقشة جوهر القضية، المتمثل في اتهامات وإيحاءات مباشرة وموثقة ضد وزير في الحكومة، لجأ إلى تكتيك تشتيت الانتباه عبر استحضار أسماء لا صلة لها بالملف، من قبيل شامة درشول أو عزيز غالي أو ويحمان، في محاولة يائسة لتصوير الحكم كجزء من استهداف أوسع لا وجود له إلا في خطابه. هذا الأسلوب، وإن كان قد يجذب التعاطف في دوائر معينة، فإنه يكشف عن عجز واضح في مواجهة الحقيقة القضائية بمنطق قانوني وحجاجي.


إن تذمر المهداوي من متابعته في خمس شكايات من طرف نفس المشتكي، وتقديمه الأمر على أنه سابقة تاريخية، يتجاهل عمدا منطقا بديهيا وبسيطا. فالإفراط في تناول نفس الموضوع، والخروج اليومي في بث يمتد لساعات على منصة يوتيوب، دون تحضير مسبق أو تدقيق، وبالاعتماد الكلي على الارتجال، هو وصفة حتمية للوقوع في الخطأ، بل وفي المحظور القانوني. إن الكم الهائل من الساعات التي يبثها لا يمكن إلا أن يضاعف من احتمالية إنتاج مادة تكون موضوعا للمتابعة. فالمسألة ليست مؤامرة، بل هي نتيجة حتمية للمنهجية التي اختارها لنفسه، منهجية تخلط بين الرأي الشخصي والاتهام الصريح.


وهنا يكمن مربط الفرس الذي يتجنب المهداوي الخوض فيه. هناك فرق شاسع بين العمل الصحفي المهني، الذي ينتقد المسؤولين العموميين ضمن مقالات رأي أو تحقيقات مضبوطة ومنشورة في منابر إعلامية معترف بها، وبين إلقاء الكلام على عواهنه وتوجيه تهم خطيرة في فضاء يوتيوب المفتوح. لو أن المهداوي صاغ انتقاداته للوزير وهبي في مقال رأي محكم، منشور في جريدة إلكترونية أو ورقية، لكان للنقاش شكل آخر، ولكان محصنا بقواعد العمل الصحفي وأخلاقياته. لكنه اختار منصة تضمن له أكبر قدر من الحرية في التعبير، وعليه أن يتقبل أنها تفرض عليه أيضا أكبر قدر من المسؤولية عن أقواله.


يبقى السؤال الجوهري الذي على المهداوي أن يجيب عنه: ما هو التوصيف الدقيق للمحتوى الذي يقدمه؟ ولماذا يصر على تسمية خرجاته "حلقات"؟ حلقات في ماذا؟ هل هو برنامج حواري؟ أم تحقيق استقصائي؟ أم هو ابتكار جديد في التواصل الجماهيري لم تدرسه بعد معاهد الصحافة والإعلام؟ الحقيقة أن محتوى المهداوي لا يخرج عن دائرة الاجتهادات الشخصية المنتشرة بكثرة على يوتيوب، والتي قد تستهوي متابعين أصبحوا أقرب إلى هواتفهم من أي مرجع آخر، لكنها تفتقر إلى أبسط معايير العمل الصحفي المتعارف عليها عالميا.


إن عدد المتابعات والمشاهدات ليس معيارا للمهنية أو المصداقية. فبمنطق الأرقام وحده، قد يصبح محتوى "روتيني اليومي" هو النموذج الأصدق والأقوى الذي يجب الإشادة به والدفاع عنه. إن من يتابع المهداوي اليوم، يشبه إلى حد كبير من يتابع الخراز أو أي ظاهرة أخرى على اليوتيوب المغربي، هو جمهور يبحث عن قصة، عن إثارة، أو عن صوت يعبر عن مواقف جاهزة. في نهاية المطاف، ما يمارسه المهداوي لا يعدو كونه عزفا منفردا ضمن فوضى اليوتيوب الواسعة، وهو اجتهاد شخصي له متابعوه، لكنه يظل خارج دائرة العمل الصحفي المنظم بقواعده وأخلاقياته ومسؤولياته القانونية التي أدركته اليوم بقرار قضائي.