"أحداث ومواقف" مذكرات الدبلوماسيوالسياسي المهدي العلوي الذي توفي في ثالث ماي 2025، ووري الثرى اليوم بالرباط، تتجاوزإلى حد ما مقولة، أن تكتب سيرة ذاتية، كأن تسير على بيض، تخشى أن يتهشم أسفلقدميك، في بلد مثل المغرب تصعب فيه "السياقة" في منعرجات السياسةوالدبلوماسية..
من هكذا منطلق يبدو أن المهدي العلوي، عمل جهد المستطاعوالمتاح، أن يتفادى كما هو معروف في الكتابة التقليدية " القراءة الانتقائيةللماضي" ، فتجربة الكتابة التاريخية في الوقت الراهن تعرف تجديداً، وتطوراًعلى مستوى الممارسة المنهجية والمفاهيم، خاصة بالرجوع إلى الأسئلة المطروحة، وإلىنقط الاهتمام وتأويل المعلومات..
كانت للمهدي العلوي قيد حياته، في مؤلفه ( أحداث ومواقف)، " القدرة الإيجابية على تدوير الحقيقة التاريخية"، كما يرى البعض،وإعادة إنتاجها من زاوية مختلفة تماماً عن الطرح الآيديولوجي لأوجه الصراعالمختلف، من خلال استحضاره الكثير من التفاصيل والشهادات والأحداث التاريخية منذاستقلال المغرب سنة 1956 إلى نهاية الألفية الثانية، وهي تعد مرحلة فارقة طبعت تاريخالمغرب المعاصر.
لقد ارتأى الفقيد أن يسرد هذه الأحداث والوقائع في مؤلفهبـ"خطاب هادئ وخالٍ من التحيز والانفعال، وبالتالي فمتنه يعد وصفة منضبطةوواعية، فيها الكثير من الاتزان والنقد الموضوعي، وهو ما ذهبت اليه بعضالقراءات في هذا المجال، حينمااعتبرت أن إصدار المهدي العلوي، بمتابة " قراءة جديدةللتاريخ النضالي والسياسي، قراءة فيها من الواقعية والكياسة ما يمد جسور التواصل،ويغلب لغة الحوار، ويكرّس مبدأ الشفافية؛ مما يجعل هذه السيرة، تتجاوز الكثير منمثيلاتها من المذكرات والشهادات إلى تنحو منحى المواجهة والصراع".
فحسب سعيد منتسب، معد كتاب " أحداث ومواقف " ،يؤكد في حوار سابق، بأن مذكرات " أحداث ومواقف"، لا تتعلق بالتمييز بينتاريخين: تاريخ متاح وتاريخ سري أو على الأقل مختلف، ولا بتثبيت الأصلي على حسابالحقيقي، ولا بالتحيز للحظي على حساب الكلي"، وهو ما جعل المؤلف، يقدم ذاكرةفي غاية الحيوية، لا يعوزها ذلك الألق التي يمنحها أسباب الوجود، ذاكرة رجل متعددالمراكز، وله دور في صنع المغرب الراهن، وفي ضبط تحولاته الكبرى، من موقف الفاعلالمشارك جنباً إلى جنب مع أهم السياسيين الذين عرفهم المغرب المعاصر.
وبذلك فإن المؤلف، تمكن من " وضع مسافة صريحة بينالتاريخ والنزعة الشُطَّارية (أو البيكارسكية) التي تتحلى بها الشخصية المصارعةوالمتمردة وغير المنصاعة للقواعد يقول منتسب الذي أضاف في هذا السياق "نحن لانقتفي أي (أسطورة) تتطور بنظرة تبتعد عن الالتزام بـ(الحقيقة) بمعناها الأخلاقي،خارج الإشكالات الفلسفية التي يمكن أن يثيرها مفهوم الحقيقة في علاقته بالذاكرةوالتاريخ".
إذن، ليس هناك، في هذه المذكرات، أي انجرار أمام المنطقالتخييلي الذي يمكن أن يطرحه استدعاء الذاكرة، كما ليس هناك أي اندفاع وراء خلق«الأوديسا الشخصية» الذي يلاحظ في الكثير من مذكرات المغاربة والأجانب، سواءأكانوا أدباء أم سياسيين أم مفكرين أم فنانين.
إن هذا الإغراء الذيتمارسه علينا الذاكرة يخفت بوضوح في كتاب المرحوم المهدي العلوي، رغم أن " حياةصاحبها بحر مضطرب"، كما يوضح معدّ الكتاب، لأن ما منح حرارة لهذه المذكرات،وجعلها ملتزمة بحقيقتها التي تتجاوز حتى صاحبها، بل جعلها تنجح في تجاهل الترابطالممكن بين البيوغرافي والخيالي، لصالح (التاريخ المشترك)، تاريخ جيل صنعالاستقلال، وتقلب على نحو تراجيدي في صراعاته، وقاسى من تجاذبات كل السلط التيأفرزها.
بيد أن الشهادة التاريخيةالتي يسعى الكتاب إلى تدوينها لا ترتبط بالماضي على نحو يمجد الذات ويعطل الحاضر،بل على العكس تماماً، هناك طموح واضح، لا يخفيه صاحبه، إلى تحرير هذا الماضي منأساطيره المؤسسة، لإعلاء المستقبل عبر القراءة الجيدة لما عاشه المغرب، دون أيتحيز لهذا الطرف أو ذاك.لذا؛ وكما يرى منتسب أن هذا المؤلف يضعنفسه " بوضوح تام ضد الموقف التقليدي الذي يمجد الصراع ويؤبده أو يؤصله؛سعياً إلى بناء الذات على نقيض ما هو أصلي».
أما الدبلوماسي السابقمحمد بنمبارك، الذي يعود إليه الفضل في إقناع المهدي العلوي الذي جاوره حينما كاننائبا أول له سفير بالأردن، بخوض هذه " المغامرة "، لـما يحمله في جعبتهحول تاريخ المغرب المعاصر في غاية الأهمية بالنسبة للأجيال الحاضرة والقادمة»، موضحاًأن الفكرة التي تداول معه فيها أسفرت في الأخير عن ميلاد هذا الكتاب الذي يعرض ماعايشه العلوي من أحداث سياسية ودبلوماسية، لكنه وفق " إيقاع حيادي يستند كلشيء إلى الحقيقة، بعيداً عن التحيز والتحامل والحسابات الباردة المتجنبة للنزقالسياسي، مع تجنب الميل إلى الكلام بالألغاز واللعب بالألفاظ والعبارات التي كثيراما تفقد الكلام معناه".
فكتاب " أحداث ومواقف "، المرفق بملاحق وبصورفوتوغرافية، يتوقف عند تسع محطات، هي «البئر الأولى» و«بداية الوعي الوطني»،و«ميلاد الاتحاد» و«المهدي بن بركة: الرجل والقضية» و«ثورة الطلاب (1968 والقضيةالفلسطينية)» و«المحاولتان الانقلابيتان» و«عمر بن جلون الشهادة والاستشهاد»و«تستمر محن الاتحاد» و«بين الحزب والدفاع عن القضية الوطنية في الأمم المتحدة»و«مغادرة الحزب والمهام الدبلوماسية» و«حكايتي مع العراق» و«سفير المغرب بالأردن»و«مستشار دبلوماسي في وكالة بيت مال القدس».
و كتب الدبلوماسي السابق محمد بنمبارك في تأبين المهديالعلوي بأن "أحداث ومواقف" كان عملا من أعمال الوعي بالذات وتجربةسياسية أراد تقاسمها مع الأجيال الصاعدة، تحدث فيه بأعلى صوت عن ممارسة العملالسياسي والوطني الحزبي، وعن نشأته في مدرسة الحركة الوطنية التي تربى فيها ونهلمن معينها مبادئ الشرف والتضامن والإخلاص والتضحية من أجل الوطن والحزب، كمااستعرض نشاطه الدبلوماسي، دفاعا عن القضية الوطنية كمندوب دائم للمغرب بالأممالمتحدة بنيويو ك، وكسفير لصاحب الجلالة بكل من مملكة هولندا والمملكة الأردنيةالهاشمية. كما تناول في مؤلفه مساره كمستشار دبلوماسي بوكالة بيت مال القدس، وانشغالاتهبالقضية الفلسطينية دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني.
وخلص بنمبارك الى القول، وفاءلمعلمه في العمل الدبلوماسي وقدوته في الوطنية " أن يموت فينا مولاي المهدي، سيظل حيا فيالقلب والذاكرة، ستبقى مناقبه وأفكاره وعطاءاته وسمات شخصيته المتفردة بين أهلهوأحبابه وأصدقائه ومجتمعه ساطعة حاضرة في قلب المعترك، راسخة في نفوس كل من عايشهسواء في الحياة العائلية أو السياسية الحزبية النضالية أو المعترك الدبلوماسي".
