في زمنٍ لم تعد فيه الجموع تنتظر بلاغًا رسميًا أو نشرة إخبارية لتُصدر حكمها أو تعلن غضبها، أصبحت الهاشتاغات هي الفتيل، ومواقع التواصل الاجتماعي هي الساحة الكبرى لمساءلة السلطة، وكشف المستور، وتشكيل رأي عام موازٍ، لا يقل شراسة عن الإعلام ولا حيادية عن القضاء.
في قضية "سمسرة الشهادات الجامعية"، لم يكن للجامعة أن تصدر بلاغًا، ولا للوزارة أن تحرك ساكنًا، إلا بعد أن انفجرت الفضيحة في الفضاء الرقمي، حيثُ تداولت الصفحات شهادات واتهامات وأسماء متورطة، بل وتحليلات وسيناريوهات تُبرئ وتُدين. فالفضيحة، كما قال إدغار موران، ليست ما يحدث في الواقع، بل ما يصل إلى العلن.
تتجاوز السوشيال ميديا اليوم وظيفتها كوسيلة تواصل، لتصبح أداة مراقبة، بل ومُنتجة للحدث ذاته. فمع كل "منشور" يندد، وكل "تاغ" لصحيفة، وكل "ستوري" يستنكر، يتحول المستخدِم الرقمي إلى فاعل سياسي – اجتماعي يُمارس سلطته الرمزية ضد مؤسسات لم تعُد تحتكر "الحقيقة".
بلغة بيير بورديو، ما نشهده هو تحوّل في “مجال السلطة الرمزية”، حيث لم تعُد مؤسسات الدولة وحدها تملك “رأسمال الحقيقة”، بل أصبح الفاعل الرقمي (الصحفي المواطن، الناشط، المؤثر، الطالب…) يملك القدرة على زعزعة السكون، وتوجيه الأنظار، وفتح جروحٍ لم تكن مرئية.
ولكن، في مقابل هذه الدينامية الجديدة، يبرز سؤال خطير:
هل كل رأي عام رقمي هو "رأي عام مستنير"؟
أم أن السوشيال ميديا، بصخبها، قد تُمجّد الشك قبل التحقق، وتصدر الأحكام قبل أن تكتمل الأدلة، وتصنع ضحايا كما تصنع أبطالاً؟
إن التحول من “هاشتاغ” إلى حركة احتجاجية، من “فيديو” إلى مساءلة برلمانية، من “تغريدة” إلى بلاغ رسمي، يؤكد أن منطق التفاعل في عصر الصورة والرؤية لا يُبنى على الصمت، بل على سرعة التلقف، وتراكم التفاعل، وهيمنة المشاعر على التحليل.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار الدور الإيجابي لهذا الفضاء الجديد، الذي حرر أصواتًا كانت مكممة، وأعاد تشكيل مفهوم "المصلحة العامة"، بل وأجبر مؤسسات جامدة على التحرك… فقط لأن "الترند" فضحها.
أمام هذا الواقع، تحتاج النخبة الأكاديمية والباحثون والمثقفون إلى تجاوز مواقع المتفرج، والانخراط في “السجالات الرقمية” دون خوف من التلوث أو الخسارة، لأن الساحة الحقيقية اليوم، حيث تتشكل العقول وتنمو المواقف، لم تعد في قاعات المحاضرات وحدها، بل في خانات التعليق، وقوائم المتابعة، وعناوين المشاركات.






