وبالرغم من كون النصوص الدستورية تتيح للبرلمان المغربي نظريا استعمال وتوظيف هذه الآليات الرقابية التي تثير المسؤولية السياسية للحكومة، إلا أن العقلنة البرلمانية تعرقل عمليا أجرأتها، بحيث فرض المشرع الدستوري شروطا تُضَيِّقُ من مجال تحريكها في مواجهة الأغلبية الحكومية مما أدى إلى إضعاف حظوظ المؤسسة البرلمانية في تفعيل هذه التقنيات الدستورية.
وفي هذا السياق، وبالرغم من علمها المسبق ويقينها بصعوبة تفعيل بعض وسائل الرقابة الدستورية قصد إثارة المسؤولية السياسية للحكومة في أفق إسقاطها؛ قرر رؤساء فرق المعارضة النيابية بمجلس النواب، يوم الأحد 4 ماي 2025، إعداد مشروع مسودة مذكرة تهدف لتقديم ملتمس رقابة في أفق إثارة المسؤولية السياسية للحكومة التي يترأسها السيد عزيز أخنوش عن حزب التجمع الوطني للأحرار، حيث تقرر الشروع في جمع التوقيعات التي يشترطها الفصل 105 من الدستور والمحددة على الأقل في خُمس الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب (395/5=79 نائبا)، بينما تتطلب الموافقة النهائية عليه قصد إسقاط الحكومة تصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم المجلس أي (395/2=198 نائبا).
أولا: آفاق ملتمس الرقابة ضد حكومة أخنوش برسم سنة 2025
بالعودة إلى الشروط اللازمة لتفعيل ملتمس الرقابة، نجد بأن المشرع الدستوري حصرها في شرطين، ضرورة توقيعه على الأقل من قبل خُمس الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب (395/5=79 نائبا)، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لا تصح الموافقة عليه من قبل مجلس النواب، إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم (395/2=198 نائبا). فهذه القيود الموضوعية التي وضعها المشرع الدستوري، تجعل من تفعيل هذه الآلية الرقابية من لدن المعارضة البرلمانية جد صعبة إن لم نقل مستحيلة بناء على تشكيلة مجلس النواب الحالية.
حتى لو افترضنا أن المعارضة النيابية الحالية نجحت في حشد النصاب القانوني للتوقيع عليه، ذلك أنه يكفي على سبيل المثال توقيع كل من أحزاب (الاتحاد الاشتراكي 34 نائبا؛ الحركة الشعبية 28 نائبا؛ التقدم والاشتراكية 22 نائبا؛ العدالة والتنمية 13 نائبا، للوصول إلى 79 نائبا)، غير أنه بالنسبة للموافقة النهائية عليه فإنه يستوجب تصويت 198 نائبا، فالمعارضة النيابية حتى في حالة توافقها لا تتوفر سوى على 125 نائبا: (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية 34 نائبا؛ حزب الحركة الشعبية 28 نائبا؛ حزب التقدم والاشتراكية 22 نائبا؛ حزب الاتحاد الدستوري 18 نائبا؛ حزب العدالة والتنمية 13 نائبا، حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية 5 نواب؛ حزب جبهة القوى الديمقراطية 3؛ تحالف فيدرالية اليسار1، الحزب الاشتراكي الموحد 1)، ففي هذه الحالة حتى لو سلمنا نظريا بأن مكونات المعارضة النيابية نجحت في التنسيق بين مكوناتها وحصل اتفاق بينها من أجل التصويت بالموافقة على ملتمس الرقابة فإنها لن تتجاوز 125 نائبا، لأنه من الصعب أن تصطف الأغلبية المتضامنة فيما بينها طبقا للفصل 93 من الدستور، إلى جانب المعارضة أخذا بعين الاعتبار أن الموافقة على ملتمس الرقابة تؤدي إلى الاستقالة الجماعية للحكومة طبقا للفصل 105 من الدستور، فهذان الاعتباران يجعلان تصويت الأغلبية البرلمانية لصالح مبادرة أقدمت عليها المعارضة مستبعد جدا، بل من المستحيل أن تصوت الأغلبية البرلمانية لصالح مبادرة رقابية مصدرها المعارضة النيابية.
هذا؛ وقد يبدو من خلال تحليل الشروط الدستورية والأنصبة القانونية للتوقيع على ملتمس الرقابة والموافقة عليه، أن المشرع الدستوري أحاط هذه الآلية الرقابية ببعض القيود القانونية، غير أن الغاية الأسمى للمشرع الدستوري هي تجنب آفة عدم الاستقرار في العمل الحكومي وكذلك تجنب دخول البلاد في أزمة سياسية ومؤسساتية يكون من نتائجها إسقاط الحكومة وحل البرلمان وإعادة الانتخابات، خصوصا أن هذه الأخيرة تكلف ميزانية الدولة أموالا كثيرة، وإذا كان هذا التخوف له مبرراته، فإنه في مقابل ذلك لا يعقل أن يبقى البرلمان تابعا لسلطة تنفيذية تتخذ إجراءات دون أن تتم إثارة مسؤوليتها من النواب عن طريق تفعيل ملتمس الرقابة الذي يعد تقنية دستورية بيد المعارضة بغية إثارة المسؤولية السياسية للحكومة وإسقاطها في حالة توفر شروطها؟. وبغض النظر عن النصاب القانوني اللازم للتوقيع على ملتمس الرقابة وبعيدا عن النصاب المطلوب للتصويت عليه حتى يتم إسقاط حكومة عزيز أخنوش، إلا أنه يعتبر من الناحية المبدئية مسألة صِحِّية ومطلوبة لعدة اعتبارات سياسية وموضوعية يمكن اختزالها في:
1/ أنه سيضع حدا للمزايدات السياسية والتوتر السياسي على الوسائط الرقمية والمنصات الإلكترونية بين الأغلبية والمعارضة، ذلك لأنه سيتم مأسسة هذا التوتر السياسي داخل مؤسسة البرلمان؛ باعتبارها المكان الطبيعي للحوار والتدافع السياسيين بين الأغلبية والمعارضة؛
2/ سيشكل بدون شك تمرينا سياسيا واختبارا لقدرة المعارضة النيابية على التأثير في الحياة السياسية، ومدى نجاحها في التنسيق بين مكوناتها ومدى جاهزيتها على تحفيز النقاش السياسي داخل الفضاء الرسمي، ومدى إسهامها في إضفاء الجاذبية على العمل المؤسساتي والبرلماني، وذلك في أفق تسييس شرائح موسعة من المجتمع استعداد للاستحقاقات التشريعية 2026؛
3/ سيشكل هذا الملتمس اختبارا لمدى تماسك الأغلبية الحكومية المتضامنة فيما بينها من الناحية الدستورية، ومدى قدرتها على مواجهة استفزازات ومناورات المعارضة النيابية داخل مؤسسة البرلمان.
ثانيا: ملتمس الرقابة آلية دستورية لم تُكَلَّل بالنجاح عبر التاريخ
من باب التذكير فقد سبق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن لَوَّحَ، بموجب بلاغ مكتبه السياسي؛ المنعقد بتاريخ 27 مارس 2024؛ بإمكانية تقديم ملتمس للرقابة على حكومة أخنوش، وذلك في إطار تنسيقه المشترك مع حزب التقدم والاشتراكية، غير أن هذه الدعوة لم تكلل بالنجاح على أرض الواقع نتيجة عدم توافق المكونات الأساسية للمعارضة النيابية على الأرضية السياسية التي تجعلها قابلة للتنفيذ والأجرأة، وبقي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يدافع وحيدا عن هذه المبادرة حتى في ظل انسحاب باقي مكونات المعارضة ممثلة في الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية، حيث عبر الأخير بمناسبة اجتماع مكتبه السياسي يوم 16 أبريل 2024، عن أسفه لعدم التوصل إلى صيغة توفيقية بشأن ملتمس الرقابة.
وبالرجوع للتاريخ السياسي بالمغرب، نجد بأن المعارضة البرلمانية سبق لها أن فَعَّلَت هذا المقتضى الرقابي مرتين، المرة الأولى كانت حينما تقدمت أحزاب المعارضة البرلمانية بملتمس رقابة في يونيو 1964، وكانت تهدف منه في الأصل إلى الضغط على نظام الحكم قصد إطلاق سراح المعتقلين السياسيين المنتمين لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وخاصة المحكوم عليهم بعقوبة الإعدام أمثال: (محمد البصري، عمر بنجلون، ومومن الديوري) الذين تُوبِعُوا بتهمة محاولة الإطاحة بالنظام في يوليوز 1961، ولكن لم تنجح في ذلك رغم حصول الملتمس على توقيع حوالي 24 نائبا بَـيْـدَ أنها لم تستطع إسقاط الحكومة. وفي مقابل ذلك؛ كانت له تداعيات سياسية تمثلت بالأساس في إقدام الملك الراحل الحسن الثاني على تفعيل مقتضيات الفصل 35 من دستور1962 والإعلان عن حالة الاستثناء بموجب مرسوم ملكي رقم 65.136 صادر بتاريخ 7 صفر 1385 (7 يونيو 1965) كان من أسبابها أن رأى الملك أن البرلمان أصبح يُمضِي وقته في سجالات عقيمة بسبب الحسابات السياسية بين الأحزاب.
وبخصوص التداعيات السياسية لملتمس رقابة 1964 فقد كانت له تداعيات عكسية على أداء المؤسسة التشريعية، وكنتيجة لذلك لم تَتَعَدَّ حصيلة برلمان 1965 سوى التصويت على ستة قوانين، وهذا الأمر جعل الملك يقوم بحل البرلمان ويفعل صلاحياته الدستورية، بحيث أصبح الملك الحسن الثاني يشرع، في تلك الفترة، بموجب ظهائر ومراسيم ملكية في مجموعة من المجالات هي في الأصل من اختصاص المؤسسة البرلمانية، بالإضافة إلى أنه أصبح يدعو إلى عقد مجالس وزارية ويقوم بصفة شخصية بترأس لجان وزارية، كما أن القانون المالي أصبحت تتم المصادقة عليه بسرعة ودون حاجة إلى عرضه على أنظار مجلس النواب.
المرة الثانية، كانت حينما لجأت أحزاب المعارضة النيابية متمثلة في فرق أحزاب (الاستقلال؛ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي) إلى طرح ملتمس الرقابة، بتاريخ 14 ماي 1990، ضد حكومة عز الدين العراقي، غير أنه هو الآخر لم يحصل على النصاب المتطلب دستوريا أثناء عرضه في جلسة 20 ماي 1990، بحيث لم يصوت لصالحه سوى 82 نائبا، مقابل معارضته من قبل 200 نائبا، وبالرغم من رفضه إلا أنه عكس تصور هذه الأحزاب للحالة والوضع السياسيين في تلك الفترة والتي رأت أن الإصلاح الدستوري والسياسي أصبحا يفرضان نفسهما بالنظر لنتائج الأزمة المالية على الوضع الداخلي للبلاد، وكان من نتائجه، رغم فشله، أن قامت أحزاب المعارضة برفع مجموعة من المطالب السياسية إلى الملك في مقدمتها المطالبة بإصلاحات دستورية تروم ترسيخ دولة المؤسسات وتعزيز سلطة القانون ودمقرطة الشأن العام وتحديث أجهزة ومؤسسات الدولة.
وقد شكلت المسألة الحقوقية أحد أولويات مطالب المعارضة النيابية، حيث طالبت في مذكرتها المرفوعة إلى الملك، في 19 يونيو 1992، بإصلاح دستوري يضمن تعزيز سلطة القانون والمؤسسات الدستورية والسياسية وصيانة حقوق الإنسان وضبط العلاقات بين السلط وتقوية مبدأ الفصل بين السلط ودمقرطة أجهزة الدولة…، الأمر الذي دفع المؤسسة الملكية لإجراء تعديل دستوري في 1992 وتعبير أعلى مؤسسة بالبلاد عن رغبتها في تحقيق التناوب السياسي على السلطة، بتاريخ 22 أكتوبر 1993، الذي لم يكتب له النجاح إلا في سنة 1998 بقيادة المعارضة البرلمانية ممثلة في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للأغلبية الحكومية.