وصلني مقطع قصير على "واتساب" من زميل، مرفوقًا بجملة: "لكم التعليق أستاذتي".
كان المقطع فاجرًا في لغته، مخلًا بآداب السياسة، ومثقلًا بغرورٍ يكاد يقول لصاحبه: "أنا الدولة ومن بعدي الطوفان"..
رأس الحكومة يصاب بداء الغرور السياسي ..
افترضت أننا في زمن بلغت فيه السياسة سن الرشد، وأن الدولة المغربية قد استوت على عود المؤسسات، خرج من بيننا من يصرخ في الميكروفونات: "عزيز أخنوش هو الذي غيّر السياسة في المغرب، أحبّ من أحبّ وكره من كره!".
ليست الصدمة في نبرة التحدي، ولا في هوس التقديس المجاني، بل في هذا الانقلاب العلني على منطق الدولة نفسها: دولة جعلت من دستور 2011 عقدًا ناظمًا للفعل السياسي، وأوكلت مهمة التأطير السياسي للأحزاب، وربطت المسؤولية بالمحاسبة، وجعلت من الملكية الفاعل الأول في تحديد الخيارات الاستراتيجية، ومِن رئيس الحكومة رئيسًا لتدبير الاختيارات، لا خالقًا لها.
فمن أين أتى هذا الكاتب، الذي بالكاد يعرفه الرأي العام، ليمنح رئيس الحكومة سلطة "تغيير السياسة"؟
ومن أذن له أن يخلع على رجلٍ واحد، في حكومةٍ هي ذاتها مرتبكة في أولوياتها، مجدَ التحول التاريخي؟
السياسة، حين تفقد بوصلة التواضع، تغرق في المبالغة.
والخطاب، حين ينفصل عن الوعي المؤسساتي، يصبح غنيمةً في سوق الولاء.
إن ما قيل ليس مجرد مبالغة، بل كشف عن لحظة عُري سياسي، تُمارَس فيها السلطة بلغة الهوس، لا بمنطق الدولة.
لقد سبق وقال برتراند روسل:
"أكثر ما يُفسد السياسة هم أولئك الذين يتحدثون باسمها دون أن يفهموا قواعدها".
وهذا بالضبط ما نعيشه: تفككٌ في قواعد الخطاب، وضبابيةٌ في فهم موقع الفاعل السياسي داخل البناء الدستوري المغربي.
فهل نسي هؤلاء أن الملك هو الضامن للخيارات الكبرى، والمشرف على السياسات العمومية ذات الطابع الاستراتيجي؟
أم أن "سلطة الاقتراح" أعمت الأبصار، حتى باتت تُرى أعلى من "سلطة التعيين"؟
ثم، كيف يُعقل أن يُغيّر رجل واحد "السياسة في المغرب"، ولم يقلها لا بنبركة، ولا اليوسفي، ولا من ساهموا حقًا في التحولات السياسية العميقة؟
إن أخطر ما في هذا التصريح ليس محتواه، بل الصفق الذي تلاه، وتلك النظرات المنبهرة التي رأت في المديح خلاصًا، وفي الانبطاح مهارة سياسية.
نحن أمام جيل جديد من "السياسيين الموظفين"، لا يسائلون السلطة بل يمجدونها، لا يحرصون على هيبة الدولة بل على هيبة الزعيم.
جيلٌ يرى في القرب من الضوء ضمانًا للبقاء، ولو احترق المعنى.
وهكذا، يُفتح باب "العبث الرمزي" على مصراعيه، حين يُمنح رجل السياسة ما لا يملكه، ويُحوّل التسيير إلى أسطورة، والتواضع إلى ضعف، والنقد إلى خيانة.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث في أي نظام سياسي، هو أن تفقد السياسة وظائفها الرمزية والمعنوية، وتتحول إلى عرضٍ مسرحي تُصفّق له الحاشية، ويغيب عنه العقل.
والأخطر، أن لا أحد يصحح هذا الانزياح.
وحين لا يجد هذا الانزياح من يرده، تصبح السياسة بلا ذاكرة، والدولة بلا ملامح، والسلطة بلا سقف. آنذاك، لا نكون إزاء مجرد خلل في التعبير، بل أمام تصدّع في ثقافة الحكم، حيث يُكافَأ الولاء الأعمى، ويُعاقَب التفكير المستقل. إننا لا نُحاكم تصريحًا عابرًا، بل نرصد لحظة فارقة تنذر بما هو أخطر: تحلل السياسة من عقلها الجماعي، وارتهانها لأهواء الفرد..
وعليه، حتى لا يتعثر السيد عزيز أخنوش عليه أن ينظر أمامه حيثُ موضع قدميه، لا أن يمدّ بصره إلى ما فوقه طمعًا في ما لا يليق إلا بأهله.