في رحاب "ألف ليلة وليلة" الأخاذة، تشرق شهرزاد كمنارة للأنوثة المتفردة، امرأة فتنت العقول قبل القلوب، وأخضعت ببراعتها الاستثنائية ملكا متعطشا للدماء، منقذة بذلك رقبتها ورقاب بنات جنسها من هاوية الموت المحدق. لم تكن شهرزاد مجرد حسناء تأسر الأبصار، بل كيانا يفيض حضورا وسحرا فطريا. بيد أنها في معركتها المصيرية، لم تتكئ على مفاتنها الظاهرة فحسب، بل تسلحت بدرع أمنع وأبقى: سلاح المعرفة المتوقدة والفطنة الثاقبة.
كانت حكاياتها المتدفقة، كشلال عذب يروي ظمأ الروح، هي الجسر الذي عبرت به إلى حصون قلب شهريار المنيعة. برعت في إذكاء فضوله المتأجج، وشد انتباهه إلى خيوط سردها المتقن، مستثمرة ذكاءها الوقاد لتؤجل قدرها المحتوم ليلة إثر ليلة. لم تكن تؤجل الموت فحسب، بل كانت تبني صرح علاقة قوامه الإعجاب والتقدير العميق، ليتوج انتصارها في استمالة الملك وإنقاذ الأرواح هالة من البهاء والجلال أُضيفت لسحرها الأصيل.
ولكن، حين نوجه البصر نحو واقعنا المعاصر، ولا سيما في مجتمعنا المغربي، نلمح للأسف تيارا متناميا يُعلي من شأن المظهر الخارجي للمرأة، جاعلا منه الأداة شبه الوحيدة لجذب الانتباه وخطف الأنظار. تتجلى هذه الظاهرة بوضوح مقلق عبر فضاءات شتى: من منصات التواصل الاجتماعي التي تضج بصور نمطية تكرس النظرة السطحية للجسد، مرورا بالمجالات العامة التي تشهد ما يشبه السباق المحموم لاستعراض البريق الخارجي، وصولا إلى بعض الأوساط المهنية التي قد تُستغل فيها الصورة النمطية للمرأة كأداة دعائية أو وسيلة لتحقيق مكاسب آنية.
لا يُنكر أحد أن للجمال الظاهري وقعه الأولي، وقدرته على فتح الأبواب المغلقة أحيانا؛ فالانجذاب للمحاسن أمر فطري. غير أن هذا الوهج سرعان ما يخبو، وتلك الجاذبية الأولية لا تلبث أن تتلاشى حين تُسبر الأغوار وتُكشف الطبائع. إن الارتكان الكلي إلى الإغراء الجسدي أشبه ما يكون بتشييد صرح شامخ فوق رمال متحركة، بناء يفتقر إلى أساس راسخ من الاحترام المتبادل والتقدير الصادق للجوهر الإنساني. وحين يبدأ سحر الجسد بالذبول بفعل الزمن أو الاعتياد، غالبا ما يتبعه فتور في الاهتمام، ليحل محله إما الملل أو البحث المحموم عن بريق جديد.
إن الرهان الأسمى للمرأة في زمننا هذا، يكمن في السعي الدؤوب نحو التميز المعرفي، والتفوق المهني، وتحقيق الاستقلال المادي. هذه هي الدعائم الصلبة التي تشيد عليها المرأة صرح مكانتها الحقيقية في المجتمع، وتضمن لها استقلالية القرار والتقدير المستدام الذي لا يتأثر بتقلبات الأهواء أو مرور الأيام. فالنجاح بحد ذاته لا يقتصر على تحقيق أهداف شخصية، بل هو عملية صقل للذات، تعزز الجمال الداخلي لينعكس إشراقا على المظهر الخارجي، وتضفي على حضور المرأة بريقا فريدا.
والمرأة المتميزة تشع بثقة تنبع من داخلها، وتنعكس هالة من السكينة والوقار على محياها، وهذا بحد ذاته قمة الجاذبية والتأثير.
المرأة التي تحقق ذاتها تفرض احترامها بعقلها الراجح، وكفاءتها المشهودة، وإنجازاتها الملموسة. وهذا التميز يضفي عليها سحرا إضافيا وجاذبية أعمق في عيون من حولها. إنها تبرهن للعالم أن قيمتها أبعد من مجرد مظهر قد يبلى، وأن لديها ينابيع من الفكر والعاطفة والعطاء تُغني بها محيطها والعالم. هذا النوع من التألق هو ما يستحوذ على اهتمام الرجل الذي يبحث عن العمق والاستمرارية، إعجاب يتأسس على تقدير حقيقي للعقل النير، والطموح الوثاب، والإرادة الصلبة،:تزيده الثقة والإنجاز إشراقا وتألقا.
فالرجل الذي يقدّر المرأة الناجحة حق قدرها، لا يرى فيها مجرد موضوع لرغبة عابرة، بل يرى فيها شريكا حقيقيا في مسيرة الحياة، عقلا يُحاور، وروحا تُلهم، وجمالا يزداد نضارة مع كل عقبة تتخطاها وكل نجاح تحرزه.
ويبدو أن في حياة كل رجلٍ، بصيصٌ من نور شهرزاد العصرية، تلك المرأة الملهمة التي تمتلك ذكاء اجتماعيا يمكنها من الغوص في أعماق النفس البشرية، وفهم احتياجات الشريك العاطفية. هي نسمة ربيعية تداعب الوجدان، يزداد سحرها عمقا وتأثيرها رسوخا مع كل فصل جديد من فصول حياتها الحافلة بالإنجاز والعطاء.
قد تتعدد الروايات حول شهرزاد، والتاريخ يزخر بسير نساء عظيمات نقشن أسماءهن بحروف من ذهب. فالمرأة ليست مجرد نصف المجتمع كما يقال، بل هي قلبه النابض وروحه المحركة، هي النسيج الذي يمنحه تماسكه وقوته. هي الابنة البارة التي تسعى لرضا والديها، والتلميذة النجيبة التي ترتوي من معين العلم، والطالبة المتفوقة التي تسمو بأخلاقها، والموظفة المخلصة المبدعة في عملها، والأم التي تحتضن مسؤوليتها بعطاء لا ينضب. هي كل امرأة تسعى للمعالي، وكل فتاة تحمل في عينيها بريق الأمل والطموح، وكل أم تربي أجيال المستقبل. إنها تجسيد متكامل للقيم النبيلة والإنجازات الباهرة، ورمز للقوة والإلهام والعزيمة التي لا تلين.