من الناحية النظرية، تعمد الدول إلى تحرير أسعار بعض السلع عندما تدرك أن سوقها الداخلي أصبح مؤهلًا وقادرًا على خوض غمار المنافسة، وأن هذه الأخيرة ستسمح بدخول أنواع متعددة من السلع المشمولة بالحماية، وأن الموردين سيتنافسون في جلب أفضل الأنواع منها بأسعار تفاضلية، أي تنافسية. الشيء الذي سيخفف، من جهة، العبء على الدولة التي كانت هي من يتكلف بإدارة التجارة في هذا النوع من السلع، نظرًا لارتفاع الطلب عليه وارتباطه القوي بالعادات الاستهلاكية للمواطنين، وبالتالي، فإن وجوده أساسي لضمان جزء من الأمن الاجتماعي المرتبط به. لكن الدولة قد ترى إمكانية تحرير سعر هذه السلعة لاعتقادها بأن السوق أصبح قادرًا على تلبية الحاجيات الملحة منها - على نحو ما ذكرنا - بكميات أوفر وبأثمان مناسبة وتنوع في الجودة أيضًا، على اعتبار أن المنافسة الحقيقية لن تكون، في آخر المطاف، إلا في صالح المستهلك. بمعنى أن الدولة ترفع يدها وتكتفي بالمراقبة من بعيد، ولا تتدخل إلا عندما يكون التدخل لازمًا ومؤكدًا، حمايةً للمستهلك ولحقوق كل المتنافسين، وهذا هو السبب في ظهور مصطلح "المنافسة الشريفة"، والذي لا يعني سوى محاربة الفساد والاحتكار وغيرهما... وسنرجع لهذا الأمر بعد قليل.
هذا فيما يخص الجهة الأولى كما قلنا، أما الجهة الثانية من هذا الحديث، فتتعلق بالسوق ذاته، أي أن التحرير يؤدي نظريًا إلى توفير كميات هائلة من السلع المطلوبة، كما وقع مثلًا في قطاع الشاي والزيت وغيرهما (هذا من حيث المبدأ)، ويصبح أمام المواطن تشكيلة متنوعة من الاختيارات والجودة، وكلٌّ حسب قدرته، وبالتالي، فإن الدورة الاقتصادية برمتها تنتعش، والقدرة الشرائية تحافظ على توازنها، ونضمن حتى السلم الاجتماعي.
هذه هي الفلسفة من تحرير الأسعار إذن، ولكن لكل شيء ثمن. فإذا انصب قرار الدولة على هذا الاختيار، فلا بد من وضع الميكانيزمات الضرورية ليحقق أهدافه، ومن بينها، طبعًا، شروط تنافسية عادلة بين الجميع، ومنع الاحتكار، ونبذ المحسوبية والزبونية، وتساوي الفرص... أي فتح المجال أمام الجميع وليس بمنطق "باك صاحبي وصاني عليك"، ثم تطبيق القانون على الجميع، وغير ذلك من المبادئ التي لا تخرج، في عمومها، عن شرط ضمان المنافسة الشريفة، ولن نحتاج حتى للحديث عن "معقولية الأسعار"، لأنه بضمان هذه الشروط، وإضافة قليل من القناعة والمواطنة والأخلاق، ستصبح معقولية الأسعار تحصيل حاصل.
هذه هي النظرية إذن، الآن السؤال: لماذا في بلادنا، ورغم التحرير وقانون المنافسة وقانون حماية المستهلك وغيرهما، ما زلنا نواجه مشكلًا كبيرًا في قضية الأسعار وحتى الجودة؟
ببساطة، لأن التحرير عندنا تحوّل من احتكار الدولة لبعض القطاعات، كما قلنا، إلى احتكار هذه القطاعات من طرف بعض الأشخاص أو الفئات، مستفيدين من عدم التنزيل الحقيقي لكل المقتضيات الضامنة لشروط المنافسة السوية ولحماية المستهلك. يُضاف إلى ذلك واقع الفساد الإداري الذي عشّش في عقول الكثير من منعدمي الضمير، وأصبح، مع الأسف، فيروسًا خطيرًا اسمه "داء الرغبة في الربح السريع"، والذي نجد ترجمته في القاموس السياسي بـ"الغاية تبرر الوسيلة". فيروس استفحل كثيرًا وتغوّل في الكيان الاقتصادي، وأصبح هو الإشكال الحقيقي المهدد للبلاد والقدرة الشرائية لعموم المواطنين... فاحتكار بعض الأفراد والهيئات لبعض السلع والمنتوجات هو ما يفسر حالة التسيب في الأسعار، والتي تبدأ من أصغر تاجر إلى الحيتان الكبرى...
على هذا الأساس، فإن التحرير، بدل أن يكون مساعدًا للدولة ومخففًا من الأعباء العمومية ومنشطًا للدورة الاقتصادية، وبالتالي مساهمًا في تحسين القدرة الشرائية للمستهلك، أصبح همزةً مغريةً لبعض مقتنصي الفرص، الذين يصطادون في بركة آسنة لوّثها الفساد وتراجع منسوب القيم...
هكذا إذن، تحكم البعض من المنتفعين في الأسواق، تحكموا في الأسعار، راكموا الثروات، تحولوا إلى لوبيات تغوّلت، ولم تعد قانعة بالقليل...
وعندما تصبح السلعة متوفرة ولكن المواطن لا يستطيع شراءها، سندخل إلى مرحلة التضخم، والعياذ بالله...
الحل إذن، هو ضرورة رجوع الدولة كي تتحكم في الأمور وتصحح الأوضاع المعيشية حتى تستقر... وإلا فسننتهي جميعًا حيث انتهى "حمادي"...
الحمد لله، لم يعد هناك مرض إلا وله دواء، فقط نحتاج إلى التشخيص الدقيق وفي الوقت المناسب...
الآن، هل تتفقون معي بأن الداء الذي أصاب منظومتنا هو الطمع أو الجشع أو الربح السريع أو الاحتكار... تعددت الأسماء، ولكن الفساد واحد؟