كانت الصدمة الفرنسية قوية وغير منتظرة لدى السلطات الجزائرية، فقد أضيفت إلى صدمة الاختراق الكبير، الذي حققته الديبلوماسية المغربية نهاية عام 2020، عندما اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمغربية الصحراء، وهو الموقف الذي بقيت ملتزمة به إدارة الرئيس جو بايدن.
إسبانيا بدورها انضمت إلى نادي كبار الداعمين لوجهة النظر المغربية؛ ففي رسالة بعث بها إلى عاهل المغرب يوم الجمعة 18 آذار/ مارس 2022، قال رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز إنه يعترف بأهمية قضية الصحراء بالنسبة إلى المغرب، وبأن بلاده تعتبر مبادرة الحكم الذاتي بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف.
في عام 2007 قدّم المغرب مشروعه للحكم الذاتي في الصحراء، وهو مشروع جاء في سياق جهود الرباط لإيجاد حلّ سياسي نهائي للنزاع الذي بدأ منذ استرجاع المغرب لصحرائه من الاستعمار الإسباني في تشرين الثاني/ نوفمبر 1975.
رأى المشروع المغربي النور بعد سنوات من الجمود بشأن إيجاد تسوية نهائية. ولا يخفى على أحد أنه جاء استجابة لدعوات المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة.
بعد مرور 17 سنة على إطلاقه، أعلن الرئيس تبون أمام البرلمان الجزائري، يوم 30 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أن فرنسا "هي راعية خطة الحكم الذاتي المغربية"، معتبراً إياها "فكرة مزوَّرة" نشأت في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك (1995- 2007)، وأن الرؤساء الذين جاؤوا من بعده ساروا على منواله.
منذ الوهلة الأولى، بدا مشروع الحكم الذاتي واضحاً للغاية، وديدنه منح سكان الصحراء إدارة ذاتية موسعة في إطار السيادة المغربية والحفاظ على الوحدة الترابية، كما يهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
لم ينتظر المغرب تحقيق تسوية نهائية حتى يطلق قطار التنمية في الصحراء؛ فمنذ استرجاعه لها، حرص على تطوير هذه المنطقة بدعمها ببنية تحتية متطورة، ارتفعت وتيرتها عام 2015، عندما جرى تخصيص موازنة كبيرة لتنفيذ مشاريع تنموية واستثمارات في البنية التحتية الصحراوية، في إطار ما سمّي"النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبيّة".
تعهّدت الرباط باستثمار نحو 7.7 مليارات دولار على مدى عدة سنوات، لتحسين شبكة الطرق والمواصلات وبناء موانئ جديدة، مثل ميناء الداخلة الأطلسي، وتطوير موانئ أخرى ومطارات لتعزيز الربط الجهويّ والدولي، إضافة إلى إقامة مشاريع الطاقة المتجدّدة (محطة الطاقة الشمسية "نور" في العيون)، ودعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصيد البحري، فضلاً عن بناء مدارس وجامعات ومستشفيات جديدة لتحسين الخدمات التعليمية والصحية.
في خضم هذه الدينامية التنموية، لقي المقترح المغربي ترحيباً دولياً واسعاً. وزاد من زخم ذلك الترحيبُ به من بعض الدول الكبرى مثل فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة، التي اعتبرت الحكم الذاتي حلّاً واقعيّاً وجديّاً وذا مصداقية.
جاء موقف فرنسا وإسبانيا أشد وطأة على الجزائر التي اكتشفت أنها بعد خمسين عاماً من الاستثمار في "تقرير المصير"، ومناكفة المغرب في وحدة ترابه، لم تحصد سوى الريح أمام نجاحاته الديبلوماسية، لا سيما أن فرنسا وإسبانيا هما القوتان الاستعماريتان السابقتان في المنطقة، ولديهما دراية تامة بكل كواليس ودهاليز تقسيم المغرب وتوزيع أراضيه بين قبائل الاستعمار.
لا تكف الجزائر منذ تموز/ يوليو الماضي عن استنكارها للموقف الفرنسي، فقد اختارت أن تغرد خارج السرب الدولي الذي يرى ضرورة حل النزاع في إطار واقعي وبراغماتي. وقد عدّ وزير خارجيتها أحمد عطاف أخيراً الدولَ التي تدعم مقترح الحكم الذاتي المغربي بأنها تضع نفسها “في الجانب الخطأ من التاريخ”.
تبقى المفارقة هنا أن الجزائر خلال رئاستها الدورية لمجلس الأمن تجنبت إدراج ملف نزاع الصحراء على جدول أعمال المجلس، ليس لأنها لا تريد ذلك، بل لأنها تُدرك أن الأمر مجرد عملية رهان خاسرة، لا تصبّ في صالحها البتة.
لقد أصبح معلوماً لديها أن الاعترافات بمغربية الصحراء باتت في تزايد، وأن الاعترافات بـ"الجمهورية الصحراوية" التي أنشأتها فوق أراضيها تتراجع بوتيرة سريعة. ولعل قرار غانا الأخير القاضي بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع هذه "الجمهورية"، التي اعترفت بها عام 1979، شكّلت ضربة قاصمة لمن دعمها بالسلاح والمال والديبلوماسية، من دون أن ننسى أن المزاج الديبلوماسي العالمي تغيّر كثيراً.
فمتى تتغير الجزائر وتساهم في خلق منطقة مغاربية مزدهرة ومستقرة؟
للأسف، لا يبدو ذلك وارداً في الأفق القريب، فهي ما زالت تعضّ بالنواجذ على مواقف عفا عليها الزمن، لكن الحقيقة الأكيدة البادية للعيان هي أن المغرب موجود في صحرائه، وحسم المعركة على أرض الواقع منذ استرجعها.