فن وإعلام

بورتريه أدبي للاغتراب: قراءة في تحفة جودليّه

زكية خيرهم ( أديبة مغربية - نرويجية )

الكاتب زهير ياسين شليبه في كتابه "جودليّه" يقدم عملاً أدبياً يصعب تصنيفه، فهو يوصفه بـ"السردية الهجينة العابرة للأجناس". الكتاب يأخذنا في رحلة معقدة ومؤلمة يعيشها اللاجئون في بحثهم المستمر عن الأمان والانتماء، وهو ما يجعل القارئ يتأمل في مدى التناقض بين المشاعر الإنسانية العميقة التي يحملونها وبين التحديات التي يواجهونها في أوطانهم الجديدة.

في الجزء الأول من الكتاب، "رسائل من زمن الحصار"، يغمرنا الكاتب بمشاهد من الماضي والحاضر عبر "مخطوط لُقية"، وهي مجموعة من القصص المؤثرة التي تروي حياة سارد مجهول. نعيش معه طفولته وشبابه في بلاده قبل أن يجبره الواقع القاسي على مغادرتها، ثم نتابع تفاصيل حياته بعد وصوله إلى الدنمارك كلاجئ. تلك القصص لا تقتصر على الحنين للماضي، بل تقدم لنا صورة معقدة عن صراع اللاجئ بين وطنه الذي تركه والبلد الجديد الذي يحاول الانتماء إليه. ما يميز هذه الرسائل ليس فقط التناص بين الذكريات الشخصية والواقع الصعب الذي يفرضه الحصار الاقتصادي على وطنه، ولكن أيضًا التحليل العميق لمشاعر اللاجئين المتباينة: الأمل والحزن، الشوق للعودة والتطلع إلى الاندماج. النصوص تشكل نسيجًا معقدًا من هذه المشاعر، مما يجعل القارئ يبحر في تجربة إنسانية صادقة، حيث لا يمكن الفصل بين الفرح والحزن، بين الغضب والامتنان.

في كل فصل من الكتاب، تتجلى هذه المشاعر بوضوح، سواء كانت فرحة لاجئ بإيجاد استقرار مؤقت أو حزنًا عميقًا على فقدان الوطن. عشت مع كل صفحة من الكتاب وكأنني جزء من هذه التجارب. تأثرت بشدة بأحاسيس اللاجئين، فبينما كانوا يحاولون بناء حياة جديدة، كنت أشعر بالحنين والحزن يتسلل إلى أعماقهم، وكأنهم يعيشون في عالمين متوازيين. لم يكن الكتاب مجرد سرد لأحداث حياة اللاجئين، بل كان أشبه بلوحة فنية تتلون بألوان الحياة المختلفة. كل قصة، كل رسالة، كانت بمثابة لوحة جديدة مرسومة بعناية، تعبر عن مصير مختلف. وما جعل الكتاب استثنائيًا هو قدرة الكاتب على الجمع بين الفكاهة والدراما، بين السخرية السوداء التي تعكس مرارة الواقع، واللحظات الإنسانية التي تتسلل عبر السطور. في بعض الأحيان، توقفت عن القراءة لأشعر بعمق الحزن الذي حملته هذه الرسائل، وأحيانًا أخرى لم أستطع إلا أن أضحك بصوت عالٍ عند وصف المواقف الساخرة. عبر الكتاب، نجح زهير شليبه في جعلي أشعر وكأنني واحدة من هؤلاء المهاجرين، أعيش يومياتهم، وأتشارك أحلامهم وخيباتهم. بصفتي مقيمة في النرويج، وجدت أن الكتاب يتحدث عنّا نحن المغتربين في بلاد الشمال، ويعيد رسم صورة واقعية عما يواجهه اللاجئون من تحديات، ليس فقط في محاولاتهم لإعادة بناء حياتهم، ولكن أيضًا في صراعهم للحفاظ على هويتهم.

هذا الكتاب ليس مجرد سرد لقصص اللجوء، بل هو تأمل عميق في التجربة الإنسانية، تجربة التمزق والانتماء، الحنين والاستسلام. يقدم زهير شليبه من خلال "جودليّه" صورة حية عن واقع اللاجئين، ويجعلنا نعيش تلك اللحظات معهم، نتأملها ونتساءل عن مصير هؤلاء الذين يعيشون بين وطن غاب ووطن لا يزال يبحث عنهم.