أتم قبل ساعات الفنان الكبير صلاح السعدنى رحلته فى الحياة، لينعم بحياة أخرى، لا يوجد فيها أحقاد ولا شائعات.
اختار السعدنى فى سنواته الأخيرة أن يطل علينا من بعيد لبعيد، مكتفيًا بأن يتأمل الحياة، بعد أن كان هو بطل الحياة.
واكب الحضور الطاغى لصلاح السعدنى فى حياتنا، تواجد جهاز التليفزيون فى البيت المصرى، وكانت الدولة حريصة على أن تقتنيه الطبقة المتوسطة، من خلال نظام الأقساط الذى كانت تطرحه فى العديد من الشركات، حتى تصل الرسالة لأكبر شريحة للمصريين.
السعدنى يعتبر فى هذا المجال من البنائين، بالمعنى الأدبى والحرفى، لكلمة بنائين، هؤلاء البناءون كانوا يصعدون إلى الاستديو عن طريق سقالات خشبية، لأن مبنى ماسبيرو الذى افتتح رسميًّا 21 يوليو 1960، كان فى سنوات البث البرامجى الأولى لا يزال تحت الإنشاء، ويحتاج إلى لياقة بدنية فائقة لمجرد الدخول للاستديو، ناهيك عن ذاكرة حديدية للحفظ، وأيضًا السرعة فى تغيير الملابس من مشهد إلى آخر، مع امتلاك سرعة بديهة وموهبة استثنائية للتغلب على أى هفوة فى التصوير أو الأداء، صلاح كان مؤهلًا ذهنيًّا وبدنيًّا لكل ذلك.
لم نكن وقتها نتعامل بفن المونتاج، لم يكن كتقنية يتم استخدامه، وفى حالة الخطأ يتم إعادة المشهد كاملًا، قال لى صلاح السعدنى: كل المخرجين القدامى كانوا يحرصون على أن تتوجه واحدة من الكاميرات الثلاث التى كانوا يصورون بها المشهد، إلى أعلى خاصة فى المسلسلات التى تجرى أحداثها فى الريف، وهناك نافذة، فى الديكور، قد تطيل تلك اللقطة، لو كان الدافع لها هو إصلاح خطأ أو تغيير ملابس أو إضافة قطعة من الديكور، ويعتقد المتفرج أن المخرج يقصد أن هناك شيئًا قادمًا من النافذة، ولا يأتى أى شىء عادة من النافذة.
ما حققه السعدنى فى بداية انطلاقه، مطلع الستينيات، لم يحظ به فنان آخر، صارت مصر كلها سرادق عزاء عند عرض مسلسل «لا تطفئ الشمس» إخراج نور الدمرداش عام 1965، والذى أعيد تقديمه قبل نحو 7 سنوات، برؤية محمد شاكر خضير، عندما رحل صلاح السعدنى ضمن أحداث المسلسل الأول، من فرط حب الجمهور لصلاح، أصبح ابنًا للبيت المصرى، وكان الحزن عليه عميقًا، بعد أن مس قلوب الناس، وخرجت الصحف فى صباح اليوم التالى وهى تعزى المصريين وتنقل ما حدث لهم.
كانت شركات الإنتاج تنتظره ليصبح هو فتى الشاشة القادم سابقًا الجميع، تفاصيل عديدة تداخلت لتبعده عن الصدارة السينمائية، ليتوافق مع مكانته كنجم تليفزيونى، إلا أنه بعد دورة سليمان الغانم نهاية الثمانينيات، فى «ليالى الحلمية» أصبح بعدها هو عمدة الدراما التليفزيونية وبلا منازع.
حكى لى صلاح السعدنى أن المخرج الراحل عاطف الطيب، وكان أكثر أبناء جيله إيمانًا بموهبة صلاح، أشركه فى بطولة فيلم «ملف فى الآداب»، ومن بين الأفلام التى رشح لها «الهروب» إخراج عاطف الطيب، قرأ صلاح السيناريو وكان سعيدًا به، خاصة أنه أول من قدم أحمد زكى هو وسعيد صالح للمنتج سمير خفاجة ليسند له أول أدواره فى «هالو شلبى»، كما أنه أقصد صلاح عندما اعتذر عن عدم المشاركة فى بطولة مسرحية «مدرسة المشاغبين»، رشح كبديل له أحمد زكى فى دور «أحمد الشاعر»، حيث كان صلاح وقتها يجرى بروفات بطولة مسرحية عالمية للمسرح القومى وضحك صلاح قائلًا لى: «لا أحد الآن يتذكر تلك المسرحية بمن فيهم أنا، بينما (المشاغبين) دخلت التاريخ».
وعندما سألته: لماذا اعتذر عن فيلم «الهروب» إخراج عاطف الطيب؟ أجابنى: تدخل أحمد زكى وطلب إعادة كتابة السيناريو، وعندما قرأته لم أجد نفسى فى الدور، الذى لعبه بعد ذلك عبدالعزيز مخيون. صلاح أحد كبار الحكائين فى عالمنا العربى، أخذ هذه الصفة من شقيقه الكاتب الكبير «محمود السعدنى»، عدت لأرشيفى، لأجد أمامى حوارًا أتصوره الأطول لصلاح أجريته معه قبل نحو 15 عامًا، فى هذه المساحة طبعًا من المستحيل أن أنقله لكم، ولكن لا بأس أن نأخذ بعض الشذرات. تستطيع ببساطة أن ترى فى ثنايا آرائه توجه «صلاح» الناصرى الذى لم يغادره أبدًا، ومهما كانت هناك انتقادات لزمن عبد الناصر، وما عايشناه من كبت للحريات، هو شخصيًّا عانى منه، إلا أن كل ذلك لم يؤثر أبدًا على توجه صلاح السياسى.
لا يخجل أبدًا من ذكر سنوات المعاناة، ذكر لى مثلًا أنه استعار قميصًا، لأنه ليس لديه واحد جديد وعلى الموضة، ليرتديه وهو ذاهب للتليفزيون للقاء أحد المخرجين، وأنقذت الموقف الكاتبة الصحفية فريدة الشوباشى وأعارته قميص أحد أشقائها، قناعته الراسخة بأن أعمدة التليفزيون الكبار فى الإخراج هم نور الدمرداش ومحمد فاضل ويحيى العلمى وإسماعيل عبدالحافظ وإبراهيم الصحن، والكتاب الكبار وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن، والمبدعون فى التمثيل سناء جميل وسعاد حسنى ومحسنة توفيق وعادل إمام وأحمد زكى والضيف أحمد وسهير البابلى، وشريهان، ولكن ما حققه عادل إمام من نجاح لم يصل إليه أحد سواء يوسف وهبى أو نجيب الريحانى أو إسماعيل يس أو فريد شوقى.
عادل هو صديق العمر وظل بالنسبة له صديق العمر، بعد أن تعارفا فى كلية الزراعة، حيث كان عادل يسبقه بعامين أو ثلاثة، واجتمعا فى فريق التمثيل، وحمل هو الراية بعد تخرج عادل إمام.
سألته عما يجرى فى الدراما بعد الانتشار الفضائى، قال لى: «ده اسمه (قانون البقالة)، المسألة ليست فلوس فقط، الكل صار خاضعًا للنجم بسبب الإعلانات، قبل بداية الفضائيات كنا أدمنا العبقرية التى أنجزها أسامة عكاشة وإسماعيل عبدالحافظ (ليالى الحلمية) وكان يحيى العلمى أنجز مع صالح مرسى ثلاثية «رأفت الهجان» العظيمة.. وهذه الأعمال هى الأعلى قامة وقيمة فى تاريخ التليفزيون فى الأمة العربية».
سألته عن الموقف الذى أغضبه فى حياته وحفر جرحًا غائرًا؟ قال لى: «ليس جرحًا ولكن معنى ظل معى حتى الآن، وكثيرًا ما أتأمله، وهو أننا جميعًا ندفع الثمن، وعلينا ألا نغضب عندما يحين وقت دفع الحساب»، وأضاف: «حذفوا اسمى من تترات فيلم (الأرض) لأنهم كانوا غاضبين من شقيقى الكبير محمود السعدنى»، وتابع أن محمود السعدنى كان يشعر بأنه قد تسبب فى إلحاق الضرر به، بينما صلاح كان دائمًا فخورًا بأنه شقيق محمود السعدنى، ولم يشعر ولو للحظة واحدة أنه يعاقب أدبيًّا بسبب شقيقه، حيث إنهم وضعوه فى القائمة السوداء فى بداية زمن أنور السادات، وكان من المستحيل ترشيحه لأى عمل فنى، استعان به سمير خفاجة فقط فى العمل كإدارى فى فرقة «الفنانين المتحدين»، حتى يوفر له راتبًا يعيش به، بينما صلاح لا يكره شيئًا فى الدنيا قدر كراهيته للإدارة.
سألته: كيف تختار أعمالك؟ أجابنى: أقرأ 30 مسلسلًا لأختار واحدًا، ورغم ذلك كثيرًا ما أضطر لإعادة كتابة دورى بنفسى.
وأضاف: «نحن أمة عربية واحدة، نعم أنا مصرى لكن جمهورى هو الأمة العربية، مصر بابها مفتوح لكل الناس، يا رب العرب كلهم وجميع الممثلين والمخرجين العرب يشتغلوا هنا فى مصر، اللى يخاف من تواجد الفنان العربى يُضرب بالرصاص».
لم يبق لنا من بقايا الوحدة العربية سوى اتحاد المحامين العرب، اتحاد الصحفيين العرب، اتحاد الفنانين العرب، اتحاد بياعين الطرشى العرب، اتحاد الخايبين العرب!.
صلاح السعدنى يجرى فى دمائه جينات أصيلة، يحركه أساسًا الموقف الفكرى الذى يتبناه العمل قبل أن يوقع على المشاركه فيه.
لم تنته رحلة صلاح على الدنيا بسنواته الواحدة والثمانين، إنها رحلة ممتدة بعطائه القادر على اختراق كل الحواجز حتى حاجز الموت!