على المستوى الاقتصادي، المغرب أصبح يحتل مكانةً لا بأسَ بها في التصنيفات العالمية، وذلك نتيجةً لتحسين مناخ الأعمال وتحسين مدوَّنة الاستثمار التي جعلت منه قبلةً لاستقطاب الاستثمارات المباشرة الأجنبية attraction des Investissements Directs Étrangers, les IDE. لا يمكن لأي مواطن فخور ببلادِه وبتقدُّمها إلا أن يعتزَّ بهذين التقدُّم والتَّطور.
فحينما يسمع المواطن الغيور على بلاده أن أغلب الطائرات التي تجوب أجواء العالم، تحتوي على أجزاء تمَّ صُنعُها بالمغرب، فهذا فخرٌ لا مثيلَ له. وحينما يسمع المواطن الغيور على بلادِه أن تصديرَ السيارات المصنوعة في المغرب يدِرُّ على البلاد ملايير الدولارات تفوق أحيانا ما يدرُّه تصدير الفوسفاط ومشتقاته. لا يمكن للمواطن الغيور على بلاده ويريد لها الخير، إلا أن يكون فخورا بهذه الانجازات الكبيرة.
على المستوى الاجتماعي، لا أحدَ يُنكر أن كرامةَ المواطن آخذةٌ في التَّحسُّن، وذلك بفتح أكبر ورشٍ عرفته البلادُ منذ استقلالها عن المستعمر الفرنسي سنة 1956، ألا وهو ورشُ التغطية الاجتماعية والصحية الذي ترتَّب عنه إعادة النظر في الأوضاع الاجتماعية للمواطنين وكذلك في البنيات التحتية الصِّحية. إنه ورشٌ يكتسي أهمِّيةً بالغة في حياة المواطنين، وخصوصا منهم الفقراء وذوي الدخل المحدود. ورش له وقعٌ كبير على نفسية المواطنين الذين، عندما يمرضون أو يكونون في حاجة إلى الأدوية، يحسون بأن استشفاءَهم وحصولَهم على الدواء مضمونان دستوريا وقانونيا.
على مستوى البنيات التحتية لا أحدَ يجادل أن بلادَنا قطعت أشواطا مهمَّةً في بناء السدود وتشييد الطرقات والطرق السيارة وبناء الموانئ الضخمة ومحطات إنتاج الطاقات المتجدِّدة وتطوير النقل عبر السكك الحديدية وبناء وتحديث المطارات…
يُضاف إلى هذه البنيات التحتية تحسين الخدمات الإدارية ورقمنة العديد منها لتسهيل الولوج إليها من طرف المواطنين. ومن ضمن هذه الخدمات، كل ما له علاقة بالخدمات الطبية التي أصبحت تُمارس عن بُعد خدمةً لمصالح المرضى وخصوصا منهم القاطنون بالعالم القروي.
ما حقَّقه المغربُ من إنجازات اقتصادية واجتماعية، وخصوصا، في عهد الملك محمد السادس، مهمٌّ للغاية ولم تستطع بلدانٌ أخرى رغم توفُّرها على إمكانيات مادية غير قابلة للمقارنة.
لكن الطامة الكبرى هي أن كل هذه الإنجازات التي هي مصدر فخرٍ لكل المغاربة، ومَن يُنكِر ذلك فهو جاجدٌ، تمَّت وتحقَّقت في ظروف مشحونة بالتناقضات الصارخة!
فعلا، المغرب يتقدَّم ويتطوَّر اقتصاديا واجتماعيا، لكن وسط تناقضات صارخة متمثِّلة في استمرار آفات الفقر والأمية إصافةً إلى توزيعٍ غير عادلٍ وغير منصفٍ للثورة التي تُنتِجها البلاد. آفاتٌ وتوزيع غير عادلٍ للثورة كان، بالإمكان، التصدي لهذه المشاكل بالتَّدريج منذ فجر الاستقلال للقضاء عليها أو على الأقل للتَّخفيف من حدَّتها على الحياة اليومية للمواطنين.
آفة الفقر تظهر بوضوح كلما حلَّت بالبلاد كوارث طبيعية أو صحية. فلما حلت بالبلاد جائحة كورونا أو تعرَّضت هذه البلادُ لزلزال مُدمِّرٍ، إلا وانكشف للمغاربة الفقر المُزمِن الذي تعاني منه شريحةٌ عريضة من الشعب تُعدُّ بالملايين.
أما آفة الأمية، فإنها تثير الغرابةَ والدهشةَ لما نلاحظ أن بلادنا نالت استقلالَها منذ 67 عاما ولا تزال هذه الآفةُ تنخر جزأً مهمّاً من الشعب المغربي وتفرض على هذا الجزء أن يعيشَ في بحرٍ من التَّخلُّف الفكري، الثقافي، الاجتماعي والاقتصادي. وما يزيد في الطين بلَّةً أن منظومتَنا التربوية تساهم، إلى حدٍّ كبير، في تضخيم الأمية نظراً لفشلها في أداء مهامها المتمثِّلة في النهوض بالتنشئة الفكرية، الاجتماعية، الثقافية، العملية والأخلاقية للأجيال الصاعدة. يُضاف إلى هذه الاعتبارات أن قطاعَ الثقافة لا يُولي لهذه الثقافة، كوسيلة لتحَضُّر المجتمع المغربي، أي اهتمام. والدليل على ذلك، أن الشعبَ المغربي لا يقرأ بحكم أنه يُنفِق سنويا بعض الدراهم المحسوبة على أصابع اليد الواحدة لشراء الكتب.
لو كانت الثروة التي تُنتِجها البلاد موزَّعةً بإنصاف، لتخلَّصت البلاد من الفقر منذ عشرات السنين. ولو أولت أحزابُنا السياسية المتعاقبة على تدبير الشأن العام، اهتماما أولويا، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، للتعليم ومحو الأمية والثقافة، لكان الشعبُ المغربي من أرقى الشعوب المثقفة!
وللتذكير، كوريا الجنوبية التي تّعدُّ اليوم من أقوى الاقتصادات، كان ناتجها الداخلي الخام، أثناء الستينيات، أصغر من الناتج الداخلي المغربي. لما عزمت أن تكون من الاقتصادات القوية خلال بداية الألفية الثالثة، أول خطوة قامت بها هي التَّخلي عن أبجديتها المعقَّدة وتعوَّيضها بأبجدية سهلة تتكوَّن من ستة وعشرين حرفا. من خلال هذه الأبجدية السهلة، قامت بحملة واسعة في المدن والقرى للقضاء على الأمية. النتيجة هي أن كوريا الجنوبية تعد اليوم، ليس فقط من أقوي البلدان اقتصاديا، ولكن من أقواها اجتماعيا، علميا، تكنولوجياً، ثقافيا وأخلاقيا!
ولتذكير كذلك، ألمانيا التي دمَّرتها الحربُ العالمية الثانية وجعلت منها حُطاما ورُكاما من الأبنية المهدَّمة، استطاعت أن تنهض من الخراب والدمار الشاملين بفضل ما كان للسياسيين من عزيمة قوية لتخطي وتحدي الصعاب. ولولا هذه الإرادة السياسية الهائلة، لَما استطاعت ألمانيا، في غضون بضعة عقود، أن تتوحَّدَ بعد التقسيم وتصبح أقوى اقتصاد في أوروبا الغربية.
السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل هناك فرقٌ، من جهة، بين الإنسان الكوري الجنوبي والألماني والإنسان المغربي، من جهة أخرى؟". من الناحية البيولوجية والفيزيولوجية، ليس هناك فرق على الإطلاق. لكن، من الناحية السياسية، هناك فرقٌ كبير في العقليات. هناك عقليات المواطنة وحب الوطن وهاجس خدمة الصالح العام. وهناك عقليات الأنانية وخدمة الأغراض الضيقة الشخصية المُعزَّزة بشعار "ومن بعديَ الطوفان". لما كنتُ مسئولا بوزارة التعليم العالي، قضيتُ عشرة أيام بكوريا الجنوبية ورأيتُ بأم عيني التَّقدُّم والازدهار اللذان وصلت إليهما هذه البلاد.
التقدُّم والتَّطوُّر والازدهار، في شتى المجالات، لا تُمطرهم السماء. إنهم يُبنَون بناءً! ومَن يقوم بهذا البناء؟ يقوم به مواطنون غيورون على وطنهم حتى النخاع. مواطنون لهم عزيمة قوية في رؤية بلدهم في أعلى المراتب بين البلدان.
في المقابل، هناك مواطنون لهم كذلك عزيمة قوية، لكن في بثِّ الفساد وجعله واحدا من ركائز تحريك الشأن السياسي في البلاد. فأينما حللنا وارتحلنا، نشمُّ رائحةَ هذا الفساد. بل إن هذه الرائحة أصبحت واحدا من مكوِّنات المشهد السياسي. في غياب هذا الفساد، كثير من الأحزاب السياسية لا يهدأ لها بال.
لو تساوت العقليات البشرية المغربية مع العقليات الكورية الجنوبية، لسُمِّيَ المغربُ، كوريا الجنوبية لشمال إفريقيا. فكيف لعقليات بشرية سياسية فضلت الفسادَ على الصالح العام، أن تقوم بتطوير البلاد وتسهيل تقدُّمها وازدهارها؟ لا أبدا! الفساد لا يمكن، على الإطلاق، أن يقترن بـالمواطنة وحب الوطن وخدمة الصالح العام. لكل عقلية سياسية المكان الذي يُوافقها أو يناسبها!
المغرب يتقدَّم ويتطوَّر، لكن وسط تناقضات اجتماعية صارخة سببُها ممارسة السياسة بمفهوم يتنافى مع الأخلاق النبيلة والضمائر الحية. لك الله يا وطني!