أسدل الستار في بداية صيف هذا العام على المنافسات الكروية في بلد جوست فونتين و ميشال بلاتيني بإحراز فريق باريس سان جرمان ذرع بطولة موسم 2022/2023 و بفوز فريق تولوز بكأس فرنسا.
إلى هنا ليس في الخبر ما يدعو إلى الاستغراب أو التأمل أو إسالة المداد. ففريق العاصمة يشفع له تاريخه في ذلك و له من الإمكانيات التدبيرية و المادية ما يسمح له بحصد كل الألقاب الممكنة وطنيا و قاريا و عالميا، و فريق المدينة الوردية يظل فريقا محترما و له دور ملحوظ في تنشيط الدوري المحلي رغم تواضع أدائه العام و تذبذب نتائجه، لكن عندما نعلم بأن حامل الكأس إنما حقق ما حققه بأرجل أجنبية 100% فلا بد من التوقف قليلا في محاولة لاستيعاب ما هو حاصل.
بأي منطق إذن يحق لمدينة بمختلف مكوناتها أن تقضي ليلة بيضاء في الخمارات و بالهواء الطلق احتفالا بكأس انتزعها فريقها الأول بلاعبين لا يمتون للمنطقة بصلة لا عرقيا و لا جينيا و لا اجتماعيا و لا إداريا و لا عاطفيا و لا تاريخيا ... و لا حتى اقتصاديا بما أن ما يجنيه هؤلاء من أموال يذهب جله في الغالب إلى ربوع أخرى من هذا العالم ؟ بأي منطق تسمح الجماهير لنفسها بالانخراط في الغناء و الرقص و العربدة و السكر و تفجير قنينات الشامبانيا و هي تعلم علم اليقين أن صناع فرحتها مجرد ضيوف قدموا من كواكب و مجرات أخرى في إطار عقد مهني مؤقت و صارم و دقيق لا تقبل بنوده أكثر من تأويل واحد؟
إن ما نعاينه اليوم هو انحراف صارخ عن روح اللعبة التي كان فيها البعد الهوياتي دائما حاضرا. كرة القدم ـ و خاصة على مستوى التفرج ـ ليست فقط وسيلة لتزجية الوقت أو للتسلية أو للاستمتاع بتفاصيل المباريات على أرض الميدان. إنها أيضا وسيلة لإثبات الذات المحلية أو الوطنية (و حتى القبلية أحيانا)، و هذا أمر لا يتحقق إلا بإسناد مهمة التمثيل لأبناء المدينة أو الوطن. بهذه الكيفية فقط كنا نخضع ذكاء اللاعبين و قوتهم و جاهزيتهم و إخلاصهم لبيئتهم الأصلية للاختبار على أمل تشريفنا و تمثيلنا أحسن تمثيل أمام أعين العالم حتى يكون احتفالنا بهم و بإنجازاتهم احتفالا صادقا له ما يبرره. و هناك من عامة الناس من يذهب بهم التحليل إلى أبعد من ذلك، إذ يرون ـ على سبيل المثال ـ بأن احتفال جماهير نادي يوفنتوس الإيطالي بفوز فريقها بأحد الألقاب الأوروبية ما هو في الواقع سوى احتفال بعبقرية الامبراطورية الرومانية و بقوة أحفاد يوليوس قيصر و بسالتهم، و بأن استحواذ نادي باناثينايكوس على معظم الألقاب اليونانية إنما هو دليل على استمرار إشعاع مملكة أثينا القديمة في محيطها الهيليني و الإقليمي ... و بأن الأداء الذي يبصم عليه فريق سريع واد زم تارة بالقسم الأول و تارة بالقسم الثاني ما هو سوى انعكاس لقدرة أهالي قبائل ورديغة على الصمود و تخطي الصعاب و النهوض بعد كل سقطة (المستعمر الفرنسي أدرى بهذه الخصوصيات).
لكل هذه الاعتبارات، و لمدة طويلة، ظلت كل الفرق العالمية في زمن كرة القدم الهاوية مشكلة حصريا من أبناء المدن التي تمثلها، بل هناك فرق كانت تركز على أحياء بعينها لاستقطاب اللاعبين حتى أصبح ينظر إلى انتقال لاعب رجاوي مثلا إلى الوداد على أنه جريمة لا تغتفر في حق أبناء درب السلطان على الرغم من انتماء الفريقين لنفس المدينة. كان الدفاع عن ألوان الفريق حقيقيا و كان تمثيل الحي أو المدينة أو الوطن بعيدا عن كل الشبهات. يا حسرتاه على أيام اتحاد سيدي قاسم و شباب المحمدية و النهضة السطاتية و المغرب الفاسي و النادي القنيطري و غيرها من الفرق الوطنية التي أثبتت دائما بأن الغنى الحقيقي يكمن في عزائم أبنائها و غيرتهم على البيئة التي ترعرعوا فيها و ليس فقط في إيرادات شباك التذاكر و أموال الدعاية التجارية و الدعم المتعدد المصادر و "البيع و الشرا" ! و يا حسرتاه على تلك الحقبة التي لم تكن تتجاوز فيها تعويضات اللاعبين المناضلين حدود 300 درهم في حال الانتصار و 100 درهم في حال التعادل و صفر درهم في حال الهزيمة ! و يا حسرتاه أيضا على منتخبنا الوطني عندما لم يكن لاعبوه في حاجة إلى مترجم لمد جسور التواصل بينهم و كان سقف انتظاراتهم و طموحهم هو تفضل عاهل البلاد باستقبالهم و أخذ صورة جماعية في حضرته ! و يا حسرتاه على ذلك الزمن الذي كان فيه النقل التلفزيوني لمختلف المنافسات الكروية القارية و العالمية متاحا للجميع و "فابور" !
اليوم، و باستثمار مالي محترم و معتبر، يمكن لأي جهة إعداد فريق متواضع يمارس بقسم الهواة للصعود إلى القسم الثاني، و بعد موسم واحد سنراه لا محالة ضمن قسم الصفوة مع إمكانية تتويجه في نهاية الموسم بطلا للدوري المحلي ما يؤهله للمشاركة في الموسم الموالي في مسابقة عصبة الأبطال القارية التي قد تفتح له الباب أيضا ليكون طرفا من الأطراف المتنافسة على الموندياليتو !!!!!!! و عندما نبحث عن أصول اللاعبين الممارسين سنجد بأن أغلبهم ـ إن لم نقل كلهم ـ لا ينتسبون إلى المجال الجغرافي للفريق أو إلى مدرسة الفريق الأمر الذي يسائل الغاية من وجود هكذا مدارس و نجاعتها في هذا الزمن العجيب. و هذا الوضع بالذات ـ و الذي يشكل فيه المال المحرك الأساسي للعبة ـ هو الذي جعل مدنا صغيرة ( حتى لا أقول قرى كبيرة ) ممثلة بالقسم الممتاز في وقت مازالت فيه مجموعة من الفرق الممثلة لحواضر محترمة تتقاذفها الأمواج بالقسم الثاني بل و حتى بقسم الهواة.
لقد أضحت الموارد البشرية المحلية بلا أهمية في تشكيل الفرق و المنتخبات و أصبح شعار "الغاية تبرر الوسيلة" سيد الموقف حتى في صفوف أكثر الأندية وطنية و أكثر الجماهير تطرفا. و قد لاحظنا في عام 2004 كيف أن الشقيقة تونس استضافت نهائيات كأس إفريقيا للأمم و منتخبها عازم كل العزم على انتزاع اللقب، و كان له ذلك بالفعل مستفيدا من امتياز اللعب على أرضه و أمام جمهوره و بدعم قيم من لاعبين برازيليين لم تتردد الدولة التونسية في تجنيسهما لهذه الغاية. و قد لا حظنا كذلك كيف سمحت قطر لنفسها بالتنافس في مونديال 2022 بفريق "وطني" لا يجمع معظم أفراده بالوطن سوى الخير و الإحسان. أما فضيحة المنتخب الفرنسي فلا تحتاج إلى المزيد من الافتضاح ... و كان من الطبيعي أن يدخل اليمين الفرنسي على الخط للتعبير عن رفضه لواقع الممارسة الجديد و التنديد به مع التذكير مرة أخرى بضرورة الذود عن صفاء الهوية الفرنسية و خاصة عندما يتعلق الأمر بالمنتخب الوطني الأول.
و على مستوى الفرق، كيف لفريق إسباني مثلا أن يتبجح بإنجازاته و حارس عرينه عربي ؟ و كيف لفريق مصري أن يعتبر نفسه الأفضل و قطب دفاعه كاميروني ؟ و كيف لفريق كونغولي أن يتفاخر برصيده و رأس حربته جنوب إفريقي ؟ و كيف لفريق ألماني أن يدق طبول الفرح عند كل انتصار و منسق عملياته على رقعة اللعب بلجيكي ؟ و كيف للفرق السعودية أن تثبت لنا تفوقها الجيني و هي مازالت ماضية في استقطاب أغلى النجوم و أغناهم حتى أضحى الأمر ضربا من ضروب السفه المرفوض شرعا ؟ و كيف لفريق إنجليزي أن يمشي مشية الطاووس و رأس ماله خليجي ؟ بل كيف يمكن لأي فريق أن يتضخم اعتزازا و مهندس خططه أجنبي ؟ (وجبت الإشارة هنا إلى أن المدربين يشكلون استثناء بما أن طبيعة مهنتهم تجردهم من أي انتماء، و هذا أمر تعودنا عليه رغم وجود رفض دفين له في أذهان الكثيرين.)
شخصيا، أفضل أن يمارس فريق مدينتي بالقسم الرابع و بعرق "اولاد البلاد" على أن أحلق معه بأجنحة الوهم ... حتى و إن كان هذا الوهم جميلا. من المضحك مثلا أن يصدق الجمهور الحريزي بأن اللاعبين المتكسبين الغرباء عن منطقته و الذين يتم استقدامهم من مدن مغربية أو عربية أخرى أو من أدغال إفريقيا أو حتى من غابة الأمازون لتعزيز تشكيلة يوسفية برشيد يذوبون في عشق الفريق و بأن لا هم لهم سوى الدفاع عن قميص الفريق و ألوان الفريق و هوية الفريق و شعار الفريق و تاريخ الفريق و أمجاد الفريق و وجود الفريق. و من المضحك أيضا أن يصدق هذا الجمهور بأن الدموع التي يذرفها هؤلاء بعد كل انتصار منبعها قلوبهم و مصبها قلوب محبي الفريق و بأن الدموع التي تعقب كل إخفاق هي تعبير عن حسرة نابعة من شعورهم بخذلان لا إرادي في حق الفريق و الأنصار. الإيمان بصدق هذه المشاعر و هذه الدموع يدخل في خانة السذاجة مادام أن الانتماء الهوياتي هنا منحصر في رمزيته فقط و مادام أنه بمجرد انتهاء صلاحية العقد المبرم بين الأطراف المعنية لن يتردد اللاعبون المغادرون في حمل قمصان أخرى بألوان مغايرة بمدن أخرى أو ببلدان أخرى أو بقارات أخرى في سياق رياضي احترافي التنافس فيه محتدم على المكاسب المادية بالدرجة الأولى في انتظار مواجهة واقع التقاعد المبكر.
لا داعي للتمويه و الهروب من الحقيقة إذن. فعندما تتحول كرة القدم من مشروع تربوي و اجتماعي و حضاري و ترفيهي إلى مشروع تجاري محض فهذا يعني ببساطة تمييع اللعبة و إفراغها من مبادئها المؤسسة و مقاصدها النبيلة. لا فرق اليوم بين كوكاكولا و بايرن ميونخ. كلاهما يبيع و يشتري. هذا هو منحى كرة القدم العصرية منذ أن تركت الهواية مكانها للاحتراف.
و غني عن البيان أن العودة إلى الوراء أضحت في حكم المستحيل و أن أي قرار بطابع تقني أو سياسي يروم القضاء على الظاهرة أو الحد منها على الأقل و من شأنه التأثير سلبا على درجة الفرجة أو على المنحى التصاعدي للممارسة الكروية ـ و خاصة في صفوف الفرق التي تعودت على التألق بأرجل الغرباء أساسا ـ لن يواجه إلا بالاستهجان و الرفض. أنا فقط أناشد الجماهير الكروية بأن تقلص من حجم اندفاعها و تحمسها و تعصبها لفرقها المفضلة و بألا يتجاوز حجم اهتمامها بمباريات الساحرة المستديرة حدا معينا بما أن اللعبة أصبحت في الغالب مجرد استثمار اقتصادي مغلف بشيء من الشوفينية الجهوية أو القبلية و آلة جهنمية لترويج أموال طائلة بين جهات معدودة في دائرة محدودة، و الدليل على ذلك أن الكثير من رؤساء الفرق فاعلون اقتصاديون أساسا يعرفون من أين تؤكل الكتف و معظمهم لا يشرعون في تعلم أصول التسيير الرياضي إلا بعد انتخابهم على رأس المكاتب المسيرة ... و من غير المستبعد أن يكون ضمنهم من لا ينتمي أصلا لمدينة الفريق !!
أما عندما يدعي أحد أبناء إمينتانوت بأن الدم "البرصاوي" يجري في عروقه و بأنه نجح في توريثه لكل أبنائه و بناته، و عندما يدعي أحد أبناء الفقيه بن صالح بأنه "ريالي" حتى النخاع و بأن الحياة لن تساوي جناح بعوضة في حال قدر لنعمة الفرجة بقلعة سانتياغو برنابيو أن تزول في يوم من الأيام، و عندما نقفز على منافساتنا الكروية المحلية و نخلي شوارع مدننا للتفرغ لمتابعة مجريات دوريات أجنبية من المفروض ألا تهمنا لا من قريب و لا من بعيد فنحن هنا بدون أدنى شك أمام مصيبة عظمى من الطبيعي أن تسائل نجاعة تربيتنا الوطنية و مدى اعتزازنا بذاتنا خاصة عندما نعلم بأن اهتمامنا المفرط و غير المبرر بالكرة الأوروبية بشكل خاص لا يقابله على الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط سوى التجاهل و الاحتقار و الاستصغار في حق بطولتنا على الرغم من التطور المسجل لا على مستوى الأداء و النتائج و لا على مستوى تصنيفنا العالمي و لا على مستوى البنيات التحتية التي أصبحنا نتوفر عليها.