تحت وهج الشاشات وتدفّق التنبيهات على الهواتف، صار وجهٌ جديد يطلّ كل يوم على الناس: الصحفي. لا يعود الأمر فقط إلى المذيع الذي تقدّمه نشرة الأخبار، بل إلى جيش كامل من المراسلين والمحرّرين والمصوّرين والعاملين في الكواليس، بل وحتى من يكتب وينشر بنفسه على المنصات الرقمية بانتظام وبمنهج خبري واضح. وسط هذا التشابك، يبرز سؤال ملحّ: من هو الصحفي حقًّا؟ وما الذي يبيح له الاقتراب من أسرار الناس وحياة المؤسسات؟ ثم من يحميه هو نفسه حين يتحوّل إلى هدف؟
هوية الصحفي
في التصوّر الدولي المعاصر، لا تُختَزل صفة الصحفي في بطاقة مهنية أو عقد عمل، بل في وظيفة محدّدة: البحث عن معلومة ذات نفع عام، التحقّق منها، صياغتها بلغة مفهومة، ثم إتاحتها للجمهور بشكل منتظم. بهذا المعنى، يدخل في الدائرة كل من يشتغل بتحرير الأخبار، أو تصويرها، أو إعدادها للنشر، ولو كان يشتغل لحسابه الخاص ما دام يحترم قواعد المهنة ولا يحوّل منصّته إلى منبر للتحريض أو الابتزاز أو الدعاية المقنّعة.
على المستوى الوطني، اختار المشرّع مقاربة مزدوجة: من جهة، يُسمَح بممارسة الصحافة على نطاق واسع عبر الصحف والمواقع والقنوات ومنصات النشر؛ ومن جهة أخرى، قُيّدت صفة “الصحفي المهني” بشروط دقيقة: التفرّغ شبه الكامل للمهنة، الارتباط بمؤسسات صحفية معترف بها، واحترام مسار تدريبي معيّن. كما تمّ التمييز بين الصحفي المحترف، والحرّ، والمتدرّب، ومن بلغ سنًّا معيّنة بعد سنوات طويلة من الخدمة فحصل على صفة الشرفي. هذا التصنيف يمنح امتيازات قانونية لمن تتوفّر فيهم الشروط، لكنه يترك دائرة واسعة من الفاعلين على الهامش.
مجال مشروع وحدود واضحة
جوهر عمل الصحفي أن يقترب من المعلومة لا من الفضائح، وأن ينقل ما يهم الناس لا ما يثير الغرائز. لذلك أقرّت التشريعات حقه في جمع المعطيات ذات المصلحة العامة ومعالجتها ونشرها دون رقابة مسبقة، ما دام ملتزمًا بالقانون. كما مُنح حق الولوج إلى المعلومات لدى الإدارات والهيئات العمومية، مع استثناءات محددة تتصل بأسرار الدفاع والأمن والحياة الخاصة.
في المقابل، مُنح الصحفي حقًا حاسمًا: حماية سرية مصادره. لا يمكن إرغامه على كشف من زوّده بمعلومة إلا في نطاق ضيّق وبقرار قضائي معلّل، لأن الطعن في هذا المبدأ يعني عمليًّا تجفيف منابع الأخبار الجادّة. ورغم ذلك، يبقى الخيط رفيعًا بين حماية المصادر والتستّر على مخالفات محتملة، ما يجعل المهني الحقيقي أكثر حذرًا في اختيار ما ينشره وما يحجبه.
خطوط حمراء
حرية الصحافة لا تعني حرية الإساءة. النصوص المنظمة للمجال وضعت قائمة واضحة لما لا يجوز أن يتحوّل إلى مادة صحفية: الدعوة إلى العنف والكراهية والتمييز، التعرّض للحياة الخاصة دون مبرّر واضح للمصلحة العامة، نشر صور قاصرين في أوضاع مهينة أو استغلالهم في محتوى تجاري، ثم المواد الإباحية وترويج الشائعات الخطيرة.
ولأن الخطأ في المهنة وارد، ميّزت القوانين بين الأخبار الخاطئة بسوء النية، والأخطاء المهنية غير المتعمّدة. الأولى قد تجرّ صاحبها إلى المتابعة الجنائية أو المدنية بتهم التشهير أو الإضرار بالنظام العام، بينما تُواجَه الثانية بالغرامات والتعويضات والتصويب، لا بالسجن. غير أن الواقع يكشف أحيانًا عن تداخل بين قانون الصحافة والقانون الجنائي يجعل بعض الملفات حسّاسة، ويُشعر الصحفي أن خطوة واحدة غير محسوبة قد تكلّفه مسارًا مهنيًّا كاملًا.
بطاقة ومهنة وحياة يومية
البطاقة المهنية ليست مجرّد قطعة بلاستيك تُعلَّق في الصدر، بل مفتاح لحقوق وواجبات معًا. من يحملها يثبت صفته أمام سلطات الإدارة والأمن والمنظّمات، وينال تسهيلات في التغطية الميدانية، ويستفيد من حدّ أدنى من الضمانات الاجتماعية: عطلة سنوية محترمة، يوم راحة أسبوعي، تعويض عن الساعات الإضافية، وأجر عن الأعمال التي كلّف بها حتى لو قرّر المدير عدم نشرها.
كما يضمن الإطار القانوني للصحفي أن لا تُشوَّه أعماله دون علمه، وأن لا يُفصل تعسّفيًّا دون تعويض منصف وإجراءات واضحة. لكن التحقيق في الواقع يكشف مفارقات مؤلمة: مؤسسات لا تحترم شروط التعاقد، شباب يعملون لسنوات بلا تغطية اجتماعية ولا بطاقة، وآخرون يُدفَعون للاستقالة الصامتة بدل سلوك مسطرة قانونية قد تواجههم ببطء وتعقيد.
حرية ومسؤولية
صورة الصحفي في المخيال العام تتأرجح بين “السلطة الرابعة” و“المتهم الدائم”. جزء من هذا التذبذب يعود إلى طريقة تطبيق القوانين. فبينما تنصّ التشريعات على منع الرقابة القبلية، وقصر إيقاف المطبوعات أو حجب المواقع على قرارات قضائية، وتكريس هيئة مهنية للتنظيم الذاتي والأخلاقي، تظهر في المقابل أحكام ومتابعات تجعل كثيرين يتساءلون: هل يُستخدم القانون لحماية المهنة أم لتطويعها؟
الصحفي الجادّ يجد نفسه مطالبًا بتوازن شديد الصعوبة: أن يلاحق قضايا الفساد وسوء التسيير دون السقوط في التهويل، وأن يحترم سمعة الأشخاص والمؤسسات دون أن يتحوّل إلى مجرّد ناقل لبلاغات جاهزة، وأن يحمي مصادره دون أن يتستّر على استغلالها.
حقيقة معلّقة… وأسئلة تنتظر الشجاعة
الصورة الكاملة ترسم مهنة تقوم على خدمة الناس قبل خدمة نفسها، لكنّها محاصَرة بين نصوص قانونية متقدمة في بعض جوانبها، وممارسات عملية لا ترقى دائمًا إلى مستوى المكتوب. الصحفي اليوم يتحرّك فوق أرضية هشّة: حماية قانونية مشروطة، ضغوط اقتصادية داخل المقاولة، وانفجار رقمي جعل كل صاحب هاتف منافسًا محتملًا.
يبقى السؤال للقارئ قبل غيره: أي صحافة يريد؟ صحافة بلا قيود تفتح الباب أمام الفوضى والتشهير، أم صحافة مقيدة حدّ الخرس؟ من يحمي الصحفي حين يكون ضحية، ومن يحاسب الصحفي حين يتحوّل هو نفسه إلى منتهِك؟ وكيف يمكن أن تُكتب قواعد جديدة للعبة، تضمن أن تظل الكلمة حرّة، لكن نظيفة ومسؤولة في آن واحد؟






