في نصه القصصي "صدمة الكوجيتو" يقدّم نور الدين طاهري تجربة سردية تتجاوز حدود الحكي التقليدي، لتغدو مختبرًا فلسفيًا يعيد مساءلة مفاهيم الوعي، الهوية، والموت إنه نص لا يُقرأ كشغف بالقراءة عار من الانهمام الفكري، بل كرحلة تأملية، يتقاطع فيها تطور الفكرة مع الحقل المعجمي للنص وتحولات الجسد، بحيث يتحول السرد إلى أداة تفكيك وإعادة تركيب للكينونة
1ــ البنية السردية
يقوم النص على ثنائية الشخصيتين عبد القادر الفيلسوف المتأمّل وصادق التاجر الواقعي لتقاطع مصيري بينهما في لحظة موت أحدهما وتأمل الآخر
الغرف المرقمة سبعة، ثمانية، تسعة تشكّل بنية مكانية رمزية، توحي بتدرج وجودي أو انتقال بين عوالم من الحياة إلى الفكر، وربما إلى ما بعدهما
2 اللغة والأسلوب
لغة النص كثيفة، شعرية، ومشحونة بالاستعارات "العالم أصبح رخوا كالعجين" "النسمة الباردة التي تبحث عن دفء المعرفة"، "رسائل في زجاجات إلى بحار لم تكشف بعد
يهيمن الأسلوب التأملي على السرد، حيث تتداخل الأصوات الداخلية مع السرد الخارجي، مما يخلق حالة من التوازي بين التجربة الذاتية والتحليل الفلسفي
3ـ الرموز والدلالات
عبد القادر رمز للإنسان العملي، المادي، الذي لا يرى في العالم سوى أرقام ومكاسب أما صادق فيمثل العقل الفلسفي المتأمل، الباحث عن المعنى في العدم وأسس الميتافيزيقا أمام الموت كموضوع للتأمل وعن أزمة المعنى في الزمن المعاصر
التحام الأرواح يرمز إلى إمكانية تجاوز الثنائيات (فكر،جسد) (تاجر، فيلسوف) نحو وعي مركّب.
الغرفة رقم تسعة: قد ترمز إلى دورة جديدة، أو ولادة فكرية ثالثة، في تكرار أبدي
4 ـ أطروحة النص والمفاهيم الفلسفية وغايات توظيفها
ينطلق النص من أطروحة مركزية مفادها أن الوعي الإنساني ليس جوهرًا ثابتًا، بل كيان مركّب قابل للتحول عبر صدمة فكرية قصوى هذه الصدمة تتجسد في لحظة التقاء روح عبد القادر، التاجر الواقعي، بجسد صادق، الفيلسوف المتأمل، مما ينتج وعيًا هجينًا لا ينتمي لأي من الهويتين، بل يعيد تشكيل العالم من منظور جديد يرى في الاهتزازات والطاقة الفكرية مفاتيح فهم الوجود
يستثمر النص عددًا من المفاهيم الفلسفية الكبرى، لا بوصفها مرجعيات نظرية، بل كعناصر سردية فاعلة:
ـ الكوجيتو الديكارتي: يُعاد تأويله ليُطبّق على العدم، في محاولة لإثبات أن التفكير في الموت شكل من أشكال الحياة وكأننا أمام اختبار كانطي فيما إذا كان بإمكان المشروط / العقل النظري، التفكير ومعرفة اللامشروط/ قضايا الميتافيزيقا
ـ الوعي الجمعي: يُستحضر في لحظة التحام الوعيَين، ليؤكد أن الفكر ليس فرديًا، بل قابل للتشكل عبر التفاعل الروحي بعيدا عن مفهوم الوعي الجمعي بمعناه السوسيولوجي
ـالبنية الفوقية: تُستخدم لتفكيك العلاقات الاجتماعية، حيث تُرى الأسرة كنسق وهمي لا كعاطفة ودانية وعلافة قرابة
ـ العبث: يتجلى في فكرة العري الكوني التي تدعو إلى تجريد الذات من أوهام الانتماء الاجتماعي الثقافي.
ـ النسبية: تُطبّق على الكينونة الإنسانية، لا على الزمان والمكان فقط، مما يزعزع فكرة الثبات والجوهر والماهية كمفاهيم ميتافيزيقية
ـ فيزياء اليقين: تُطرح كنظرية تقول إن الصدق له تردد طاقي، مما يحوّل القيم الأخلاقية إلى خصائص فيزيائية
ـ التراكب الكمي: تُستعار من الفيزياء لتوصيف حالة الهوية المركبة، حيث يصبح الفرد في حالة تراكب وجودي: لا هو التاجر ولا هو الفيلسوف، بل كليهما ولا أحد منهما، إنه اللاتحديد الهوياتي ، حالة اغتراب الوعي، شبيهة بحالة حي بن يقظان حين فشل في مساعدة أبسال لإصلاح المجتمع
ـ التمييز بين الموت البيولوجي والموت الرمزي الفكري
يتبين إذن أن هناك مراجع لا تُذكر صراحة في النص، لكنها تُستدعى ضمنيًا عبر التناص الفلسفي والسرد الرمزي لا يشرحها النص، بل يُعيد إنتاجها داخل تجربة سردية متعالية، مما يجعله مفتوحًا على قراءات تأويلية متعددة
غايات هذا التوظيف تتجاوز التزيين المفاهيمي، لتخدم مشروع النص في تفكيك ماهية الوعي والهوية التقليدية، ونقد البنى الاجتماعية، وتأسيس وعي جديد يتجاوز الجسد نحو الفكرة والوعي المركب
5 الوعي الترنسندتالي والتحليل الفلسفي
يمكن قراءة النص أيضًا من خلال مفهوم الوعي الترنسندنتالي، كما صاغه كانط، بوصفه الوعي الذي لا يُختزل في التجربة الحسية، بل يسبقها ويجعلها ممكنة، فعبد القادر، بعد التحامه بصادق، لا يعود كذات لها ماضٍ، بل كـبنية إدراكية تعيد تأويل العالم وحين يقول أنا لا أتذكر الأشكال، بل الاهتزازات فإنه يتحدث من موقع الذات المتعالية التي لا تتعامل مع المعطى، بل مع شروط إدراكه
إن العودة من الموت ليست حدثا بيولوجيا، بل فعلا معرفيًا يعيد بناء العلاقة بين الذات والعالم، هي بمثابة قفزة ترنسندنتالية في بني الوعي تجعل من الفكرة شرطًا للوجود، لا نتيجة له
لا يقدّم النص هنا الفلسفة كموضوع، بل يجعلها بنية داخلية للسرد القصصي، فالموت لا يُطرح كفناء، بل كمنعطف وتحول أنطولوجي، والعودة ليست استعادة للذات ووعي منجز سلفا، بل ولادة وعي فائق (يذكرني هنا بحي بن يقظان) لا يجد له موطئ قدم في عالمه القديم، في مجتمع الحشود
هذا الوعي الجديد، الذي يحمل في داخله توتر التاجر والفيلسوف، يعيش مأساة مزدوجة :
فقدان الانتماء إلى النسق الاجتماعي، والعجز عن العودة إلى الصفاء التأملي
إنه وعي يسعى لإثبات ذاته عبر الإنتاج النظري، لكنه يظل معلقًا بين الواقع والمطلق، بين الجسد والفكرة، في حالة تراكب لا يمكن حسمها
6ـ القراءة التأويلية والبنية الأسلوبية
من منظور تأويلي، يمكن اعتبار النص تجربة سردية رمزية في تفكيك الهوية وإعادة تشكيلها الغرف المرقمة ترمز إلى مراحل الوعي، والتحام الأرواح يمثل تجاوزًا للثنائيات التقليدية. عبد القادر لا يعود ليعيش، بل ليتأمل، وصادق لا يموت، بل يتحول إلى وسيط لفكرة تتجاوزه. ومن ثمة يطرح النص سؤالا وجوديا:
ماذا يحدث حين يعود الوعي من الموت محمّلًا بتجربة الآخر؟ وهل يمكن للبيئة أن تستوعب هذا التحول؟
الجواب السردي يأتي في شكل مأساة فكرية، حيث لا يجد الوعي (الفائق) من يفهمه، ويظل يرسل رسائل إلى بحار لم تكتشف بعد.
يتسم أسلوب النص بكثافة لغوية وشعرية ملحوظة، حيث تستخدم الاستعارات والتشبيهات لتوليد المعاني
الجمل طويلة، متداخلة، تحمل طابعًا تأمليًا يمتح من حقل الفلسفة والفيزياء الرياضية، وتُبنى على إيقاع داخلي يوازي التوتر الفكري للشخصيات
كما يعتمد النص على تقنية التوازي السردي بين الغرف المرقمة، مما يمنح المكان بعدًا رمزيًا، ويؤسس لتدرج وجودي بين الحياة (رقم 7 / الواقع الحسي ـ المادي)، الفكر النظري التأملي (غرفة رقم 8)، وما بعدهما
اللغة في هذا النص، ليست مجرد وسيلة سرد، بل تحولت إلى محاولة في " التفلسف"، استخدمت فيها المفردات بدقة لتوصيف حالات الوعي مثل: "الاهتزازات"، "الفراغ المزدوج"، "العودة المجهولة"، وهي تعبيرات لا تنتمي إلى القاموس اليومي، بل إلى حقل تأويلي خاص بالنص
خاتمة
ليست قصة صدمة الكوجيتو عن موت وعودة، بل عن تحول الوعي، وعن مأساة الكائن الذي تجاوز ذاته ولم يجد من يفهمه. إنه نص لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يجعل من بنيته السردية أداة لتفجيرها ويمكن القول إن نور الدين طاهري لا يكتب قصصا، بل يجري تجارب فكرية في هيئة سرود، حيث يصبح الأدب وسيلة لتوسيع حدود الوعي، لا لتأطيره ولطرح الأسئلة الفلسفية قصد التفكير والتأمل ومحاولة إخراج قط واغنر من صندوقه






