رأي

خالد أخازي: الاحتيال الناعم على ميزانيات الأكاديميات.. الإنصاف حين يُدار بلغة ملتوية

كاتب صحفي

منذ أن تم الإعلان عن شروع الأكاديميات الجهوية في استرجاع الاقتطاعات الخاصة بالمتصرفين التربويين، بدا في الظاهر أن الملف يسير نحو تسوية منصفة. غير أن التدقيق في خلفيات القرار وطريقة تنفيذه يكشف أن ما يحدث لا علاقة له بالإنصاف، بل هو تحايل إداري ناعم، يُدار بلغة مالية ملتوية، ويُخفي خرقًا واضحًا لمبدأ الاختصاص وللقانون التنظيمي للمالية.

فالقانون واضح في هذا الباب؛ إذ تنص المادة 31 من القانون التنظيمي للمالية رقم 130.13 على أن كل نفقة يجب أن تُنفذ في الباب المخصص لها بحسب طبيعتها ومصدرها. ومعنى ذلك أن عمليات الاسترداد المالي، أي استرجاع المبالغ المقتطعة من أجور الموظفين، تقع قانونًا ضمن اختصاص الخزينة العامة للمملكة،  وليس ميزانية الأكاديميات الجهوية. لأن الاسترداد يُعد تصحيحًا لحسابات وطنية متعلقة بالأجور والتعويضات المركزية، وليس بنفقات جهوية ميدانية.

لكن ما وقع فعليًا هو نقل غير قانوني للاختصاص، إذ تم تكليف الأكاديميات بتنفيذ عملية الاسترداد، رغم أنها لا تملك أي سند محاسباتي أو قانوني يخولها ذلك، ولا يمكن برمجة هذه المبالغ أصلًا في أبواب ميزانياتها السنوية. وهذا وحده كافٍ لجعل العملية برمتها مخالفة للشرعية المالية. فقد تم إصدار التكليف دون فتح باب مالي خاص في فصول الميزانية  للمتقاعدين  حيث أن اللوائح  حصرت فقط المزاولين، مما جعل الأكاديميات أمام وضعية تنفيذ “افتراضية” لمبالغ لا وجود لها محاسبيًا.

ولا نعرف كيف لمصالحها المالية نفسها ستُدرج العملية في حساباتها، ولا نعرف تحت أي بند أو فصل يمكن أن تُصرف هذه المبالغ. إننا إذن أمام حالة فوضى محاسبية مقنّعة، تتناقض مع مبدأ وحدة الميزانية وشفافيتها. ومما يزيد من خطورة الوضع أن الأكاديميات، في سعيها إلى الامتثال الشكلي للتعليمات، وجدت نفسها أمام حل وحيد ممكن من الناحية التقنية: وهو صرف المبالغ للمزاولين...ربما ضمن باب  بالتعويضات... وهذا خاص بالنشطين.

وهكذا، لم يتم استبعاد المتقاعدين بقرار معلن، بل لأن الاحتمال المالي الوحيد الممكن داخل الأكاديميات هو تمرير المبالغ للمزاولين فقط، بصيغة مالية ملتوية تجعل من “الاسترداد” تعويضًا، ومن “الحق المالي” مجرد نفقة تكميلية تُصرف في الهامش. إن هذه الصيغة، بقدر ما تبدو ذكية من حيث الالتفاف على الإشكال، فإنها في جوهرها تلاعب بالقانون، وخرق صريح لمبدأ المساواة بين الموظفين، لأنها تربط الإنصاف بصفة المزاولة لا بالحق المكتسب.

ولأن الاسترداد في الأصل لا يمكن أن يتم إلا عبر المركز، فإن ما يجري اليوم ليس سوى إخراج إداري لتحايل مركزي، الهدف منه الالتفاف على مقتضيات المادة 89 من النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية، التي تضمن التعويض عن الفروقات المالية بأثر رجعي، دون تمييز بين مزاول ومتقاعد. ومع أن النقابات التعليمية رحبت بالعملية في بدايتها على أساس أنها خطوة إنصافية، إلا أنها لم تُنبَّه إلى أن العملية لا تملك أي سند قانوني، ولا يمكن تنفيذها محاسبيا داخل الأكاديميات. وبذلك، تم استدراجها إلى “تفاهم إداري” لا يضمن شيئًا في الواقع.

إن الخطر الحقيقي في هذه العملية ليس ماليًا فقط، بل مؤسساتي أيضًا، لأنها تؤسس لنمط جديد من تفويض خارج الاختصاص، تُستخدم فيه الأكاديميات كواجهة لتصريف قرارات مركزية بلا غطاء قانوني. وهذا ما يُفقد الجهوية معناها الحقيقي، ويحوّلها إلى مجرد أداة لتوزيع الأخطاء والتملص من المسؤولية. فالأكاديمية لا تملك الصلاحية لتعديل اعتماداتها أو فتح باب جديد للصرف دون سند قانوني، وأي مبلغ يُصرف خارج  المراجع ابقانونية يعد “نفقة غير قانونية” وفق أحكام المحاسبة العمومية، ولو بلغة تقنية ملتوية.

بهذه الطريقة، تحوّل الإنصاف الموعود إلى تسوية وهمية، لا تحقق المساواة ولا تستند إلى الشرعية. وأخطر ما في الأمر أن العملية قد تُمرر فعلاً شكليًا، فيستفيد المزاولون من مبالغ تُدرج تعسفًا ضمن “ تحويلات مبهمة”، فيما يُقصى المتقاعدون، وتُغلق بعدها الملفات كما لو أن العدالة قد تحققت. لكن الحقيقة أن ما جرى هو التفاف بيروقراطي محكم يهدف إلى إطفاء الاحتقان، لا إلى تصحيح الخطأ.ط، لأن الاسترجاع مركزيا يعني تفعيل التعويض في الأجرة عن الفارق الناجم عن تغيير الدرجة والإطار، وهذا ما تهربه بمكر وزارة برادة.

إن الأكاديميات ليست جهة مقصّرة، بل ضحية تفويض فوقي غامض، جعلها تنفذ تعليمات تتجاوز مجال اختصاصها. والحل اليوم لا يكمن في ترقيع المسطرة، بل في إعادة الملف برمّته إلى المركز، حيث وزارة المالية ومديرية الشؤون الإدارية والمالية، لإعادة البرمجة وفق القانون، وضمان استفادة جميع المتصرفين دون تمييز. كما يجب فتح تحقيق مالي وإداري لتحديد المسؤوليات عن تمرير عملية غير قانونية بهذا الشكل، لأن المساس بالاختصاص المالي ليس تفصيلاً، بل خلل في جوهر تدبير المال العام.

الإنصاف لا يُدار بالاحتمالات، ولا يُنفذ بالتفويض، ولا يُسوّى بلغة ملتوية. إنه فعل قانوني شفاف لا يتحقق إلا عبر مسار واضح، مؤسس على البرمجة والرقابة والمحاسبة. وكل ما عدا ذلك ليس سوى احتيال ناعم على القانون والعدالة معًا.