فلسفة القانون أعقد من غيرها في الفهم والتأويل، ذلك أن المقاربة القانونية الصرفة التي عادة ما تدرس في كليات الحقوق والتي أعتبرها تقنوية، تلقن نصوص القانون وتنزع كل يوم أكثر نحو ترسيخ طابعها التقني الوظيفي غير البنيوي، حتى أن المحاكم صارت تتجه بضغط من العاملين في مجال القانون نحو تقديم أجوبة جاهزة على نوازل بعينها مبتعدة أكثر فأكثر عن خصوصية الملفات وخصوصية أبعادها الإنسانية، وهو توجه أظنه غير سليم إذا ما استحضرنا علاقة القانون بمبادئ شديدة التعقيد من قبيل "العدالة"و"الإنصاف"
نعم، القانون ليس تقنيا، وما نرفض الإقرار به رغم أنه واقع، هو نسبية مفهوم "استقلالية القضاء" عن الواقع الذي يتفاعل معه، ذلك أن القاضي حينما يختلي للتأمل، وحينما تختلي الهيئات للمداولة فإنها لا تفعل ذلك بمعزل عن تأثير المجتمع والسياق على فعل يظل إنسانيا في نهاية المطاف، حتى لو بالغنا في المغرب على غرار النظام الفرنكفوني في تضخيم مفاهيم من قبيل حياد القاضي وعدم انحيازه لدرجة تكاد تكون طوباوية، وهو الأمر الذي فطن له النظام القضائي الانكلوساكسوني الذي أفسح المجال للاعتبارات الإنسانية وخصوصيات الملفات المعروضة على القضاء في حيثيات ارتكاب الأفعال الجرمية وتفاعلها مع البيئة الإجتماعية المحيطة بها.
ما الذي يحث حين يتأمل القاضي للنطق بالحكم؟ وما الذي يحدث حين تتداول الهيئات لنفس الغرض؟ إنها لحظة في غاية التعقيد الإنساني يمكن أن نحاول الغوص فيها في مناسبة أخرى.
هل يطرح القاضي وهو يحكم هذا السؤال المعقد: "ماذا لو كان الحكم في الواقعة التي بين أيدينا مخففا، ألن نفتح المجال أمام انفلات اجتماعي واسع سيصعب على الدولة بما هي تجسيد لإرادة التعايش بين الناس أن تحتويه أو تتحكم في تداعياته السلبية على التعايش بين الناس في مجتمع واحد متعدد ومختلف؟ علما أن هذا التعايش في ظل نظام عام مستقر ضامن للأمان هو الهدف الوجودي للدولة في ماهيتها الأصلية؟
الجواب سيجرّنا لمناقشة وظيفة القضاء، وهل من حقه طرح مثل هذه الأسئلة، غير أن الحقيقة تقول أن القضاء ليس جهازا تقنيا يحاول تطبيق نصوص جافة على ظواهر جامدة، وإنما هو في النهاية جهاز حي إنساني يتفاعل مع واقع إنساني.
إن الكثير من الأفعال المخالفة للقانون تبدو في حد ذاتها غير مؤثرة أو يمكن تجاهلها وعدم إثارة الانتباه إليها، غير أن القضاء بوصفه مؤسسة من مؤسسات الدولة في كل مكان في العالم دون أن يمس ذلك باستقلاليته المتعارف عليها، يشتغل في النهاية بمنطق الدولة ويستحضر مسؤولية تفاعل أحكامه مع الواقع، وهو ما يطرح سؤال الوظيفة الزجرية المستوحاة في بيئتنا من نظام التعزير.
هل يعتبر استحضار الوظيفة الزجرية والتأطيرية لأحكام القضاء مسًّا بحياد القاضي وتحريفا لوظيفته التي تتعامل مع الواقعة أمامه كواقعة معزولة؟ هذا نقاش فيه اختلاف كبير ذو طبيعة فلسفية وحقوقية وقانونية، لكن الواقع يقول أن الوظيفة القضائية أكثر تعقيدا من اختزالية مطلب "تطبيق القانون" الذي يبدو بسيطا، لكنه في الحقيقة ليس كذلك.






