حين غادرت جريدة الصحراء المغربية، بعد محطة تكوينية ممتازة، استمرت عدة شهور، تمرنت فيها بشكل قوي في القسم الرياضي، حيث صار لي اسم معلوم، وفي بقية الأقسام، حيث تعلمت من خلال الملاحظات التي كان يقدمها لي رؤساء الأقسام، بدأت في البحث عن عمل قار، أنطلق به في مسيرتي المهنية.
لم يكن الأمر سهلا، ذلك أن العرض في سوق الشغل كان محدودا جدا، مما جعلني على الهامش لمدة معتبرة، لولا أن بعض العقلاء، وضمنهم على الخصوص الأستاذ مصطفى حبيبي، المختص في التكنولوجيا، والقارئ الجيد لجريدة الاتحاد الاشتراكي (تعلم اللغة العربية من كلمات أبو سلمى المسهمة)، نصحوني بضرورة اللقاء المستمر والمتواصل بزملاء الدراسة، على اعتبار أن هؤلاء بالضبط من سيكون لديهم علم بواقع الصحافة، ومن سيقربونني من فرص الشغل.
اتصل بي الأخ والزميل حسن العطافي، مرة، ليسألني عن حالي. وحين علم بما أنا عليهن تأسف كثيرا، ووعدني خيرا. ثم اتصل بي مجددا، ليعرض علي العمل، ولو لفترة مؤقتة، في مجلة شهرية مختصة في الشأن الرياضي، اسمها مجلة "البطولة"، لصاحبنا كريم إدبيهي. لم أتردد، بل قبلت العرض توا، وانطلقت إلى حيث اللقاء بالأخ والزميل كريم إدبيهي، الذي وجدته شخصا بشوشا، دائم الابتسامة، خدوما، يحب عمله، ولديه معرفة كبيرة جدا بالرياضة، وعلاقات واسعة للغاية بالوسط الرياضي، وبخاصة منه الكروي.
كانت تجربة متميزة للغاية. وبينما ظننت، أول الأمر، بأن الاشتغال في مجلة شهرية سيكون سهلا، بالقياس إلى الاشتغال في يومية كـ"الصحراء المغربية"، التي خبرتها عن كثب، إذا بي أجد عمل المجلة مختلفا تماما، بحيث يركز على الحوارات المطولة، والبورتريهات، والربورطاجات، وحتى التحقيقات، وهي التي تتطلب كثرة التنقل، وكثرة الاتصالات، والكتابة ثم الإادة، بفعل المتغيرات التي تطرأ إثر الوقائع والأحداث، ثم قد يأتي الجديد ليقلب ترتيب المواد رأسا على عقب.
أذكر أنني كنت أستعمل دراجتي للتنقل من البيت، بحي روش نوار، إلى مقر العمل بدرب غلف، ثم من هناك إلى ملعب الرجاء والوداد بحي بوسيجور، للبحث عن الأخبار، فضلا عن الربورتاجات والبورتريهات، ولكي أصبح وجها مألوفا لدى اللاعبين والمسيرين، بالإضافة إلى الإداريين، الذين يملكون "مربط الفرس" في كل ناد، ومعرفتهم تشكل معبرا إلى أشياء مهمة جدا. فالكواليس هي التي تصنع الحدث عادة.
حدث، مثلا، أن كنت في ملعب الرجاء الرياضي، بحثا عن شيء ما، بطلب من الأخ كريم إدبيهي، إذ كنا نعد ملفا عن الفريق، فإذا بي أصادف دخول المدرب الأرجنتيني الراحل، أوسكار فيلوني، ومعه مساعده محمد مديح، ومدرب الحراس سعيد الدغاي. وما أن وقعت عيني على الثلاثة، حتى سارعت إلى طلب حوار مع المدرب، الذي فاز للتو بقلب البطولة، وكان يعود من رحلة إلى العيون، حيث واجه الرجاء شباب المسيرة.
كان فيلوني، وربطتني به علاقة طيبة سواء باعتباره مدربا للرجاء أو الوداد، رجل تواصل بامتياز، ويعرف كيف يستعمل الصحافة ليوصل رسائله. ومن حسن حظي، حينها، أنه قلب بإجراء الحوار، وجلس معنا مديح والدغاي في المكتب، حيث كنت أطرح الأسئلة التي أريد، ويجيب هو لفرنسيته العجيبة، المخلوطة بلكنة هيسبانوفونية، وبنظرات عميقة، وأفكار أكثر عمقا، لرجل خبر دهاليز الكرة في إفريقيا والعالم.
فرح كريم إدبيهي، حينها، بذلك الحوار فرحا شديدا. أما أنا فعدت، على دراجتي، الثقيلة، مزها للغاية. وكنت أتلمس في كل مرة جيبي، حيث وضعت المسجلة الصغيرة، كي أطمئن على الكنز الذي أحمله، غير عابئ بما حولي في الطريق إلى مقر العمل بدرب غلف، حيث كانت السيارات تمر سراعا، فيما أمضي ببطء، أشبه ما أكون بعبد الحليم في فيلم "معبودة الجماهير". ينقصني فقط أن أغني. ولعلي غنيت في سريرتي، وقد ظفرت بحوار مع مدرب الفريق البطل، وليس أي مدرب، أوسكار فيلوني يا سادة.
ومن غريب الصدف أن الحوار الوحيد الذي بقي معلقا، في تلك الأثناء، هو ذلك الذي كان يفترض إجراؤه مع الرئيس، محمد عمور. فقد كان مشغولا للغاية، ولا يتصادف أن نجده على أهبة، مع أن الأمر لم يكن يتطلب سوى بضعة أجوبة على عدد قليل من الأسئلة، كلها ذات نفس إيجابي، بما أن الفريق توج باللقب، وكل الرجاويين يعيشون على وقع الفرح. أما بعض الحوارات البسيطة مع مسؤولين آخرين في الفريق فكلتنا وقتا ثمينا، فيما كان إغلاق العدد الشهري يقترب.
واكتشفت حينها، وعن كثب، إلى أي حد هي الأندية الرياضية أكثر حساسية من الأحزاب السياسية. فقد ألفت، عبر تتبعي الطويل للشأن السياسي، أن أرى السياسيين يتحدثون باستمرار، وأحيانا دون قيود، مع أنهم يتكلمون في مجال شديد الحساسية. ثم حين جئت إلى عالم الرياضية، وجدته مفطرا في حساسيته، والمسؤولون فيه يديرون ألسنتهم مليار مرة في أفواههم قبل أن يتفوهوا بكلمة. منهم من يخاف أن تؤول كلماته، ومنهم من يخشى الا يذكر فلان أو علان، ومنهم من ينتهي به الأمر إلى أن يطلب إلغاء حواره، مفضلا أن ينأى بنفسه، مع أنه كان يحبذ الظهور.
تعلمت من إدبيهي الكثير الكثير. كان لطيفا جدا، وخدوما، وودودا. غير أنني، في تلك البدايات، كنت أتوق إلى تجربة يومية، حيث يتسنى لي أن أتعاطى مع الخبر السريع، وتوتراته، وتقلباته. غير أن الباب الكبير الذي فتحه لي ذلك الرجل، وبقيت علاقتي به ودية جدا طيلة مساري المهني، عبر مجلته "البطولة"، سيكون له فضل كبير علي في علاقاتي مع الفاعلين في المجال الرياضي.
نعم التجربة هي. لا تنسى أبدا.
يونس الخراشي(صحفي)






