مجتمع وحوداث

يُؤتى الحَذِر من مأمنه

ياسين عدنان (إعلامي و شاعر)

من نَكَدِ الدنيا على المرء أن يُبتلى، وهو في غمرة مشاغله وانشغالاته، بمَن يستدرجه إلى سفاسف الأمور، ويورّطه في دَرَكٍ كان يتمنّى ألّا يَنْجرّ إليه. لولا أنّ الشاعر قديمًا قال: "ومن لا يَظْلِم الناس يُظلَمِ". وليس ثمّة ما هو أظلَمُ من أن يجد المرءُ نفسه وقد تحوّل، بجرّة قلم، إلى "شخصية ممسوخة" في تدوينة مُغرِضة.

الأمر يتعلّق بمستخدم يعمل في مكتبة شهيرة بالرباط، يكتب من حين لآخر تدوينات يتربّص فيها بالكُتّاب ويؤلّب القرّاء عليهم. كتب مرّةً أنّه توسّط لكاتبٍ للمشاركة في نشاط ثقافي نظّمته إحدى المؤسسات التعليمية الخاصة بالعاصمة، لكنّ الكاتبَ أحرجه حين طالب بأن تتحمّل الجهة الداعية مصاريف تنقّله وإقامته. صاغ تدوينته مُعرّضًا به، وكأنّ الكاتب ارتكب جريمة نكراء حين طالب مؤسسة خاصة - أغلب الظن أنها لا تستقبل أبناء المغاربة مجّانًا - بالحدّ الأدنى من الضيافة واللوجستيك. النبرةُ المتحاملة التي يصوغ بها هذا الشخص تدويناته تُقدّم الحدث بسوء طَويّة وتُوجّه النقاش بطريقة مغرضة. هكذا انهالت التعليقات المُتواقحة على الكاتب الذي ظلّ اسمه مجهولًا.

كان هذا المستخدمُ مَن بعث إليّ، يومها، بتدوينته تلك، مزهوًّا بها. توقّعتُ أن يتدخّل الكاتب المُنكَّلُ به لتوضيح الأمر، خاصةً وأنّ موقفه سليمٌ تمامًا، لكنه لم يفعل. ربّما لأنّ التدوينة كانت مُوجَّهةً بما يكفي لإدانته، وقد ابتلع مُتابعو صاحبنا الطُّعم، فانقضّوا على الكاتب المسكين. هكذا، آثر هذا الأخير ألّا يعلن عن نفسه، تفاديًا للزجّ بها في هذا المستنقع. فالكُتّاب من أحرص الناس على سمعتهم، لأنهم غالبًا لا يملكون سواها. لكنّ ترفُّعهم، في كثير من الأحيان، لا يزيد المُدَلّسين إلّا افتراءً.

لذلك قرّرتُ أن أغادر حيادي، مُجازفًا بهذا التوضيح.

زُرتُ يوم الجمعة الماضي مكتبة الألفية بالرباط. ما إن ولجتُها، رفقة أسرتي، حتى تعالى الزّعيق في أرجائها. كان هناك زبون يصرخ غاضبًا، مُعلنًا أنّه من رُوّاد المكتبات منذ أكثر من ستين سنة، وأنه يرفضُ أن يُهان داخل فضاء يُفترَض أن يكون ملاذًا للمعرفة.

"ما الخطب؟ ما الذي تعرّض له هذا الزبون لينتفض بهذا الشكل؟ ومِمّن؟"

كبحتُ جماح فضولي، وانشغلتُ بين الرّفوف أبحث عن ضالّتي من الكتب. فوقتي ضيقٌ محدود، ولي في العاصمة مآرب أخرى. 

بادرني أحد الأصدقاء بالتحية، ثم حدّثني عن مجموعة قصصية له، لعلّها إصدارُه الأول، واقترحَ مشكورًا إهدائي نسخةً منها. قبلتُ بسعادةٍ طبعًا. لكنّه لم يكن يحمل قلمًا، فانطلق يبحث عنه. وأغلب الظّنّ أنّه قصد المستخدم إيّاه، وربّما وقّعَ الإهداء على مكتبه. ثم عاد بالكتاب، الذي استلمتُه منه ممتنًّا، وتابعتُ تجوالي الحرّ بين الرفوف.

عند المغادرة، وبعدما اختار كلُّ منّا بُغيَتهُ من الكتب - زوجتي وطفلتي بيان وأنا - سدّدتُ ثمن ثمانية كتب بلغت قيمتها 1.318 درهمًا، الفاتورة أسفَلهُ تُثبت ذلك. وأنا أودّع الشابة والشاب المكلّفين بالصندوق، نبّهاني إلى أنّني أحملُ كتابًا لم أصرّح به. أوضحتُ أنّه هديةٌ من مؤلّفه، الذي سلّمَهُ لي يدًا بيد، وأريْتُهما الإهداء ظنًّا منّي أنّه دليلٌ قاطعٌ على صِحّة قولي وسلامة موقفي. لكنّهما أصرّا على أنّه لا يمكنني الخروج به دون تسديد ثمنه. وقد كدتُ أدفع، تفاديًا للحرج، لولا أنني لمحتُ المُستخدم، كاتب التدوينة المُغرِضَة، يراقبني عن بُعد وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ مُراوِغة.

أحسستُ أنّ في الأمر دسيسةً، ولعلّها مِن تدبير هذا المُستخدم الذي يُفترَض أنّه منشغلٌ بتدبير شؤون المكتبة. إذ وحسبَ تدوينته، كان شاهدًا على أنّ مؤلِّفَ الكتاب قد اقتنى تلك النسخة من أجلي. فلماذا لم يتدخّل من أجل تبيان ذلك وشرحه لزملائه فورًا؟ ولماذا يريد مني أن أدفع ثمنها؟ هل يريد أن يبيع النسخة الواحدة من الكتاب مرّتين؟ وهل هذا من النزاهة في شيء؟

أمّا وقد تكشّفَتْ لي معالم المكيدة، فقد تركتُ لهم الكتاب، ونفذتُ بكرامتي، معلِّلًا نفسي باقتناء نسخة منه لاحقًا من محلٍّ أكثر مهنيةً واحترامًا للكُتّاب والزُّبناء على حدٍّ سواء.

غادرتُ مستاءً، معاهدًا نفسي على تجنُّب هذا الفضاء المُفخَّخ قدر الإمكان، مؤثرًا نسيان هذا الحادث السخيف. لكنّ تدوينة فاسدة نشرها هذا المستخدم، حوّلتني من زبون قارئٍ ولج المكتبة رفقة أسرته طلبًا لعناوين اقتناها من حُرّ ماله، إلى "كاتبٍ كبير يُشار إليه بالبَنان"، كما جاء في تدوينته المُغرِضة، لولا أنّه "متعجرفٌ"، "يفتقرُ إلى التواضع"، "سلوكُه مُخجِل"، ثمّ "ما ضَرَّهُ لو أسرع لأداء الثمن الرمزي للكتاب تكريمًا لمجهود صاحبه وتشجيعًا له، ما كان ذلك ليُفرِغَ جيبه"، كما جاء في التعليقات التي أسعدت قلب صاحبنا، بدليل أنّه كان يوزّع عليها اللَّايكات بسخاء مريب. وأغلب الظّنّ أنه لم ينشر تدوينته المُغرِضة تلك إلّا استدرارًا لهذه التعليقات المتحاملة على زبون مسكين ساقه حظّه العاثر إلى مجال تلصُّصِه.

لهذا أودُّ أن أوضّح أوّلًا أنّني لستُ كاتبًا كبيرًا ولا أعدُّ نفسي كذلك. إذ ليس في هذا المجال كُتّاب "كبار" وآخرون "صغار". بل كُتّاب مسكونون بقلق الكتابة، وآخرون متطفّلون. ثمّ إنّني ولجتُ المكتبة قارئًا، طالبًا عناوين دفعتُ ثمنها، وكنت أظنّ أنّ كلّ شيء قد انتهى بانتهاء المُعاملة، لولا هذا المتربّص الذي تسلّط عليّ من حيث لا أحتسب. 

قديمًا قيل: "يُؤتى الحَذِر من مأمنه". فالسُّكارى يلِجُون الحانات، والمقامرون يتردّدون على صالات القمار، ومع ذلك تُحفَظ أسرارُهم هناك ويُعامَلون باحترامٍ كزبائن. المرضى يقصدون المستشفيات والصيدليات، ولا يُفشى من أسرارهم الطبية شيءٌ. أمّا كُتّاب هذا البلد الذي فسدت أخلاقُ بعض كُتبيّيه فها هم يفتقدون الحدَّ الأدنى من الأمن والتوقير في رِحاب المكتبات.

المكتبة فضاءٌ تجاري، من المفروض في أصحابه أن يحمُوا زبناءهم ويحترموا خصوصياتهم. ولهذا، أحمِّلُ مكتبة الألفية مسؤولية ما تعرّضتُ له من تشنيعٍ غير مقبول من طرف رقيبٍ عجيبٍ أغلبُ تدويناته المُتهافتة، التي صار يجمعها في كُتب، ليست سوى تلصُّصٍ مريبٍ على زوّار هذا المحلّ.

إنّ دوْرَ الكتبيّ - والمكتبة بشكل عام - ليس هو التطفّل على الزّبائن من الكُتّاب والقرّاء، بل الاضطلاع بدورِ وسيطٍ لا غنى عنه بين الكاتبِ وناشِره من جهة، والقارئِ من جهة أخرى. وعليه في هذه الحالة أن يكون مُلِمًّا بما تحتويه رفوفُ المكتبة من ذخائر فكرية وأدبية، وأن يضع معارفه رهن إشارة هواة القراءة وأصدقاء الكِتاب، فضلا عن أفواج الباحثين الشباب، خصوصًا في مدينة جامعية مثل الرباط. كما ينبغي له أن يرصُد الكتب الرّائجة، ويحرص على طلب نُسخ إضافية منها قبل نفادها من الرُّفوف. بل يمكنه، حين يكون مصدرَ ثقة، أن يُوجِّه القرّاء ويساهم في تشكيل وعيهم من خلال توصياته الشخصية، فيلفت انتباههم إلى عناوين بعينها وإلى آفاق معرفية تناسبُ شغفهم وتستجيبُ لتطلُّعاتهم. علاوة على أدوار أخرى عديدة لا مجال للتفصيل فيها الآن. لكنْ ليس من بينها أبدًا ترصُّد حركات الزبائن وسكناتهم، أو نصبُ الفخاخ والكمائن لهم، ثمّ التعريضُ بهم بعد ذلك، تصريحًا أو تلميحًا، طمعًا في "اللايكات" واستدرارًا للتَّعاليق المُقذعة.

أمّا الفضول فهو إنساني، ومع ذلك على العاقل كبحُ جِماحه. وهذا ما فعلتُه. وإلّا لكنت سألتُ صاحبنا: لماذا حين ولجتُ مكتبتكم كان هناك زبون يُرغي ويُزبد وأنتم تُطيّبون خاطره؟ أم أنّ إهانة روّاد "الألفية" أضْحَت عملةً رائجة؟