ما يُقدّم للرأي العام هذه الأيام على أنه "إصلاح قانوني شامل"، هو في حقيقته هندسة ناعمة لمجال قائم على الحرية، إصلاح يبدو في ظاهره عقلانيا، تقنيا، مؤسساتيا، لكنه في جوهره يُخفي شيئا آخر تمامًا: عودة منطق القبيلة إلى المؤسسات، لا عبر السيوف، بل عبر المراسيم.
أقولها بيقين التي اعتادت أن تفكك العبارات قبل أن تصدقها، وأن تنظر خلف النصوص بدل البحث داخلها
ما يُهيأ الآن ليس تحديثا، هو إعادة فرز للصوت المسموح به.
ليس تقنينا، هو ضبط هادئ للهامش المتاح، وصياغة جديدة لشروط الانتماء إلى "الجماعة المقبولة".
في هذا المشهد، لا أحد يمنعك من التعبير، لكن عليك أن تتقن "فن التحدث دون إزعاج".
أن تكتب داخل الإطار، أن تنخرط دون ملاحظة، أن تُظهر الحماسة حين تُطلب، وتصمت حين لا تُستشار.
فإن أبديت رأيا صريحا، قيل لك: "هذا توقيت حساس".
وإن طلبت الكرامة، هُمِس لك: "الصبر حكمة".
وإن تمسكت بمبدأ، وُضِعت في خانة "غير القابلين للتأطير".
القبيلة الجديدة لا ترفع راية، بل ترفع مذكرة.
لا تصدر فتاوى، بل توجيهات مهنية.
لا تعلن الإقصاء، بل تفعّله إداريًا: دعم لا يصلك، لجنة لا تصوَّت لك، أو ترخيص يُعلَّق في صمت.
والمؤسسات؟
تتحول تدريجيا إلى هياكل فارغة من معناها.
تُدار بمنطق الزعامة، بدل اعتماد التمثيليات.
يُوزّع داخلها الكلام مثل الأدوار في وليمة قبلية: الصدر للموالين، والظل لمن لم يحسن الاصطفاف.
وقد يبدو هذا المشهد ناعمًا، مدنيًا، حضاريا.
لكنه في العمق عودة إلى منطق العشيرة: من معنا يُكافأ، ومن يسأل كثيرا، يُربَّى إداريا حتى يفهم أين موضعه.
أنا لا أكتب هنا دفاعا عن فوضى،أبدأ!، ولا رفضا للتنظيم.
بل أكتب لأنني أرى كيف يُخنق صوت العقل تحت غبار القانون،
وأرى كيف يُسحَب البساط من تحت قدمي المهنة، وهي تُقاد نحو مربّع الولاء بدل رسم مربع الكفاءة.
هناك اليوم من يريد أن يُقنعنا أن المهنية تعني الصمت،
وأن الاستقلالية تهديد، وأن الشجاعة قلة نضج
لكننا نعرف لأننا عشنا قبل هذه اللحظة أن ما يُراد الآن هو قطاع مطيع، لا قطاع حر.
قطاع يُعاقب فيه من يخرج عن الصف، ليس لأنه مخطيء، و لكن لأنه أزعج.
يُحاصَر فيه الرأي، ويُصنّف فيه كل خارج عن الإجماع، لا كصاحب رأي، بل كـ"متمرد"، أجل، اللعبة واضحة.
وهذه التدوينة لا تكشف أسرارا، بل فقط تسمي الأشياء بأسمائها:
القبيلة عادت،نعم لقد عادت و دخلت من باب التنظيم،وجلس شيوخها في موقع القرار،
وأُعيد تعريف الحرية في قواميسهم الجديدة بأنها "امتثال ذكي"، لا "استقلال أصيل".
أنا أؤمن بالقانون، لكن ليس حين يتحول إلى أداة تصفية.
وأؤمن بالتنظيم، لكن ليس حين يصبح أداة تكميم.
وأحترم المؤسسات التي لا تُدار كـ"مجالس عرفية" بواجهات عصرية.
من حقي أن أقول إننا لا نعيش إصلاحا، بل مرحلة دقيقة من إعادة بناء الطاعة بمظهر مهني.
وإننا لا نُنظّم المهنة، بل نُهذّبها على مقاس الشيخ، ونربّي ألسنتها لتُحسن الإنشاد الجماعي.وحين تصير الكتابة فعل تمرد، والرأي موقفا يُكلف، والاختلاف علامة خطر، نكون أمام سؤال أكبر من المهنة
هل نريد مجتمعا مدنيا... أم قبيلة حديثة بأوراق رسمية؟
أيتها السيدات و أيها السادة "حين تكمم الأفواه تشرع أبواب الفساد"، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لهم..






