فن وإعلام

فيلم 'المادة' The Substance.. الجسد كأداة للتعبير والتفاعل والتواصل

فؤاد زويريق ( كاتب وناقد سينمائي )
يعتبر الجسد في المسرح والسينما الأداة الرئيسية للتعبير والتفاعل والتواصل، فهو الذي يتحكم في مشاعر المتلقي ويوجهها حسب الدور المسند إليه، فإذا تحدثنا عن الجسد فنحن نتحدث عن الممثل بطبيعة الحال، وما يصدر منه من فعل يشدنا إليه يدعى التجسيد، يمكننا استحضار تاريخ المسرح اليوناني وكيف مَسرَحَ الجسد وأطلقه متحررا، ويمكننا أيضا الدخول في متاهاته الفلسفية والأنثروبولوجية، واستعراض مفاهيمه عند بكيت وأداموف وغيرهما، لتحليل قوته الطاغية، وسيطرته على الرؤية البصرية، وتجاوزه للنص/الحوار، لكن هذا سيتطلب منا الكثير من الوقت لن تتحمله هذه الورقة، فالجسد الذي سنتحدث عنه هنا يستحق منا حقيقة استعراض كل هذه المفاهيم والنظريات احتفاء به، ووقوفا على دوره الرئيسي والفعّال في العمل السينمائي باعتباره أداة تفاعلية بصرية، وصورة بلاغية مليئة بالانفعالات الفكرية والتعبيرية، لكن لضيق الوقت كما أشرت، سنتطرق إليه كعنوان عريض للفيلم المراد التحدث عنه.

هو جسد أنثوي جميل، يخفي داخله حمما نفسية صاخبة تحوله في النهاية إلى جسد ''فرانكنشتايني'' بامتياز -إن صح التعبير- نسبة الى رواية ''فرانكنشتاين'' لماري شيلي التي تفننت وبرعت في خلق شخصية مخلوق يشبه البشر ولا يشبههم، مخلوق مُعاد تجميعه من أعضاء جثث الموتى، مخلوق يجسد فيه سرّ الحياة كما أرادها ''خالقه'' في الرواية، الطبيب فيكتور فرانكنشتاين، مخلوق كاتبة الرواية ماري شيلي ومسخها هذا تذكرته وأنا أشاهد فيلم "المادة" The Substance 2024 للمخرجة الفرنسية كورالي فارجا، حيث يتحول فيه جسد الممثلة ديمي مور من جسد مثير وفاتن ومتناسق، إلى مخلوق مسخ بشع، نتيجة تحدي الزمن والطمع في الوصول الى الكمال الجمالي، هنا تكمن عقدة الفيلم، البحث عن الشباب الدائم، والوصول إليه بأي ثمن حتى لو كان على حساب الكثير من المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية، المهم هو الظهور بمظهر فاتن ومثير يسيل لعاب الجمهور والمتفرجين، حيث يتحول الجسد إلى مجرد تمثال فارغ منحوت بكل عناية وإتقان، تمثال يجلب الدهشة والإعجاب والربح لمن خلفه من منتجين. حاولت المخرجة كورالي فارجا في فيلمها هذا استخدام كل مالديها من مهارات وتقنيات لجعلنا كجمهور نشمئز من فكرة الحلم بالشباب الدائم، والإستسلام لمنطق الزمن وقبول الجسد الذي يحتوينا دون التفكير في تغييره أو تحويله، وقد نجحت في ذلك، فلا شك أن كثيرين خرجوا من القاعة السينمائية بالرضا التام والثقة الكاملة في أجسادهم كما هي بعيوبها قبل محاسنها.

 الفيلم أعاد ديمي مور إلى ألقها وعنفوانها الفني، حيث أدت هنا دور ''إليزابيث سباركل'' النجمة الكهلة التي تواطأ على جسدها الزمن ومنتج برنامجها، وقد كانت على قدر كبير من تحمل المسؤولية في جعل هذا العمل يحتفي بالجسد وذلك بجعله محور الأحداث والشخصية الرئيسية الأبرز في كل مشاهده، في تواز متناسق مع تشخيص الممثلة مارغريت كوالي التي أدت شخصية ''سو''، نسختها الشابة، وشريكتها في هذا الألق والنجاح، فتبادل الأدوار هنا أعطى للجسد معنى خارج المنظور الجمالي التقليدي الذي يجعل منه عادة أيقونة تفيض رقة ورومانسية، وهذا ليس غريبا على هذا النوع من التفكير السينمائي الثائر الذي ينتمي إلى أفلام ''رعب الجسد''، قصد إيصال فكرة ما عبر تشويهه وتحويله الى مسخ مخيف.

 الفيلم لم يلجأ الى الصدمة من أول وهلة، بل تدرج في الوصول إليها عبر بناء درامي محكم، متماسك الخيوط، بل في الحقيقة هو خيط واحد، يمثل كل المسارات والأفكار، جسد إليزابيث سباركل الكهل مقابل جسد سو الشاب، والجسدان هنا هما لنفس الشخصية، فقط هذا الأخير استنسخ من الأول عبر أدوية حصلت عليها إليزابيث من برنامج علمي سريّ غير قانوني، لكن الأمر ليس بهذه السهولة فله عواقب جانبية خطيرة جدا إذا لم تُتَّبع التعليمات والشروط بشكل صارم، في البداية نجحت العملية وسارت الأمور بشكل سلس وهادئ، إلى أن دخلت النسخة الشابة في حالة من الأنانية والطمع غير المسيطر عليها قصد الاستفادة من أطول مدة زمنية ممكنة من الشباب، في استنزاف غير محسوب لجسدها الكهل، لتتحول بالتدريج الى مسخ دون إمكانية العودة الى الحالة الطبيعية.

 في بداية الفيلم كان الجسد بكامل عنفوانه وجماله، وكانت صاحبته النجمة بكامل ألقها ونجاحها الجماهري، بعدها تنطفئ إثارته ويخبو جماله، فتدخل صاحبته في ثورة وتمرد ضد الزمن المتمثل في التجاعيد التي بدأت تغزوا تفاصيل جسمها، هي مرحلة الصراع النفسي الداخلي الرافض للطبيعة البشرية المتحولة، لينتقل في النهاية الى صراع جسدي بين شخصيتين هما في الأساس نفس الشخصية، فتُقتل واحدة بيد الثانية ليُعلن بعدها عن ولادة المسخ، هذا الإعلان الذي اكتسح كل المشاهد الختامية للعمل وحوّل شاشة القاعة البيضاء الى شلال من الدماء.

  بعيدا عن السيناريو المتماسك والمكتوب بعناية الذي أهل الفيلم للفوز بجائزة أفضل سيناريو في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي 2024، وبعيدا أيضا أن التشخيص القوي، والتقنيات والمؤثرات المستعملة بشكل مدروس، والمشاهد المبهرة، والاقتباسات الجميلة المتلاحقة من عدة أفلام كلاسيكية مشهورة... تبقى قوة الفيلم في فكرة الثورة على الجسد، وفي كيفية صياغتها جسديا ومعالجتها نفسيا، حيث نعيش لأكثر من ساعتين داخل جسد الشخصية بنواقصه وعيوبه، تلك التي أدت إلى تحوله إلى شخصية سيكوباتية متمردة على نفسها، لا على المجتمع الذكوري المتنمر الذي جعل منها أداة استهلاكية مختلة نفسيا.