فن وإعلام

وجوه وأمكنة حسن نرايس,, بين الأنا و الآخر

ادريس الروخ

لا يمكن أن تكتب عن كتاب حسن نرايس ( الحي المحمدي - وجوه و أمكنة دون أن تتوقف احتراما و إجلالا لذاكرة الحي المحمدي  وما أدراك ما الحي المحمدي . 

فمعرفتي المتواضعة بشخص حسن الكاتب و الصحفي والناقد و المسرحي و الإنسان لا تنفصل عن فضاء الحي جملة وتفصيلا ، فهو ملتصق بالمكان كما المكان ملتصق به كلاهما يمثل بنية واحدة لعالم متعدد الثقافات ، متعدد الاوجه ..متعدد الذكريات ..

فحسن لغة الحي في أمكنة و أزمنة أخرى يروي عن نفسه بلغة الحي و عن الحي بلغة الحب الذي يستوطنه منذ أن انبثقت زهرته في أجواء الحي الملونة بألوان الشعر و الغناء والمسرح و التشكيل و فن الاصغاء و الحديث ..

لا يمكن و أنت تحمل كتابا بين يديك يؤرخ للذاكرة ..إلا أن تستعد في مغامرة الولوج عبر بوابة الزمن إلى ماضي الحي بكل أناسه من رجال و نساء كتبوا عنوانا بارزا في تاريخ المغرب و خلدوا أسماءهم على درب الفعل النضالي و الثقافي و الفني و الأدبي و السياسي و الرياضي ..

كتاب حسن نرايس أرخ و وثق و وشم على مجد اللحظة و مجد المكان و مجد أسماء بارزة في عالم الحي المحمدي 

هذا الحي ليس أحد الأحياء العريقة في مدينة الدار البيضاء فحسب. بل  يُعتبر من أقدم الأحياء السكنية في العاصمة الاقتصادية وله مكانة تاريخية وثقافية مميزة.

لقد كان الحي مركزًا مهمًا للحركة الوطنية المغربية خلال فترة الحماية )1912-1956(.  كان موطنًا للطبقة العاملة التي عانت من الفقر والتهميش، ما جعله أرضًا خصبة لنشوء وعي وطني مقاوم. من خلال المظاهرات أو العمليات السرية ضد المستعمر ، مما جعله يحمل رمزية خاصة في الذاكرة المغربية.

الإصدار الجديد للكاتب والناقد السينمائي المغربي حسن نرايس وضع له عنوانا يحمل الكثير من التأويلات العميقة الموقعة بجرح الماضي و صرخة الوقائع و الاحداث و الشخصيات و حنين العودة لدفء المكان و أحاديث مستلهمة مفعمة بالمشاعر الصادقة ."الحي المحمدي: وجوهٌ وأمكنة". كتاب يربط الماضي بالحاضر و يخلق جسرا لمستقبل الأجيال اللاحقة لمعرفة رمزية عنوان الكتاب  و الكاتب على حد سواء ، و رمزية المكان و أسطرة أسماء  بصمت بقوة في فترات مهمة من تاريخ بلد بأكمله .  يتناول نرايس  ابن السي مبارك نرايس  القادم من منطقة ثلات الأخصاص في رحلة السيد الوالد إلى البيضاء  و تحديدا بكريان سنطرال حيث استقر بدرب مولاي الشريف و كان عنصرا فعالا في المقاومة و النضال اثناء الاستعمار الغاشم .

من خلال رحلة السيد الوالد الخصاصي و العديد من المحكيات و البورتريهات نجوب دوريات "الحي المحمدي" الشهير في مدينة الدار البيضاء، هذا الحي الذي اشتهر بكونه مستنبت إبداعي ورياضي و سياسي  في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي .

في الكتاب حياة أناس رسموا بصبرهم و اجتهادهم و قدرتهم على التحدي لوحات فنية بأبعاد إنسانية ..بين كل شخصية وشخصية شخوص أخرى يتحدث عنها حسن بصيغة الجمع ، فيحكي عن فعل التواجد في فضاءات التصقت بذاكرته وبذاكرة كل من يعرف عن قرب و يعيش في أحضان الحي المحمدي ..شخوص ملهمة ، مؤثرة ، مفعمة بروح المغامرة ، شخوص صنعت تاريخها و حولت كل من حولها إلى لغة يومية تتداولها وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية ، شخوص فاض ما بداخلها و أخرجت رحيق عصارتها بين حلبة و خشبة و كتاب و لحن و زعامة ..شخوص ترسخت كنوع من الإثارة و انتفضت كشخصيّات ملحمية ، قوية مسلحة بإيمان التغيير و التجديد و التميز ، إنها تشبه شخصية كاتبها ، فحسن نرايس نفسه واحد من الذين انتفضوا و حلقوا بعيدا من درب مولاي الشريف إلى صفوف السربون و من كيرا إلى خير الدين و من ناس الغيوان و جيل جيلالة و المشاهيب إلى عوالم بريل وازنفور وبياف من سينما السعادة الى الاديون ..من ازقة الحي الضيقة إلى رحابة مونبرناس و مومارت..هو نفسه مثال حي للتغيير و المعرفة و كسب المزيد من ثقافات الآخرين ..هو المتشبع بروح بلد اسمه المغرب يحمله بداخله اينما رحل و ارتحل ، هو يحكي كما يحكي والده الخصاصي ..يحكي عن كل الذين يعرفهم ..عاشرهم ..التقى بهم ..وما اكثرهم ..هنا في كتاب الوجوه سافر بنا بمعية عينة من أسماء فاعلة ، كلا في مجال تخصصه يوحدهم فضاء شاسع و أمكنة مختلفة تتواجد في دائرة يضيئها التميز ..يكفي ان تذكر عزيزي رحال و الحاج العيدي و بوشعيب فقار و العربي الزاولي و الروداني و السوسدي و الزوغي و مفتاح وزينون و عاشق و السعدية ازكون..و عبد الحق نجيب ..و ..و لائحة طويلة من هامات و قامات شامخة كشموخ جبال الأطلس ..تطل على سماء المجد و تعانق سماء الحرية ..هناك في تيران الطاس او تيران الحفرة كما كان يسمى من ذي قبل ذاكرة جيل باكمله 

  يقول حسن :" أصبحنا و الحالة هاته نرى العالم بحجم تيران الطاس الحفرة ، كنا نستهلك لحظات التداريب بكل ما او تينا من قوة بدنية مع أصدقاء من قبيل الباطماويين حميد ورشيد و عبد الحق عاشق الملاكمة و حميد البوهالي و آخرين.. ."  

اختار حسن في كتابه ان يخرج من بحر ذكرياته صورا بحجم الؤلؤ تزين عهده بموطنه و تبرق كبريق المرجان في مؤلف يهتز ايقاعا روحيا بين كل صفحة تقرأها ، تارة تجذبك الاحاسيس و تارة الذكريات و أخرى تقف احتراما و تقديرا لنبل الانسان ، ففي الوجوه أمكنة و في الأمكنة و جوه مأثرة ..وبينهما جسر شيد بالوفاء و الحب و التضحية ..فالمكان عند حسن هو ايضا الزمن و في نفس الآن الذات الفاعلة المركبة تركيبا نفسيا و اجتماعياً و سياسا و ثقافيا وإبداعيا ..المكان بنية لا تستطيع ان تفصل اطرافها عن بعضها ..انها خلطة ربانية شكلتها التجارب و الأزمات و رصعت صدرها المعانات و لونتها الصرخات..انها أسمى عبارات و معاني الكونية.. ففي الحي المحمدي كونية الفضاء و الأسماء

ولعل حسن عندما فتح ذاكرته للبوح بمخزون الثراء الإنساني الذي عاش ينتقل بداخله مدة طويلة ..أراد أن يقدم لنا خدمة نحن الذين لم نعش الحي المحمدي لنكتشف أننا نعيش أيضا بذكريات أحيائنا مع شخصيات لم ننتبه لها في غفلة منا ..