فن وإعلام

وداعا مصطفى الزعري… وداعا لفنان بالطبع والطبيعة

عبد السلام المساوي

ما كنت لأصدق ما جرى لولا حرقة الحزن الذي آلمني كثيرا، عندما وقعت عيني على الخبر المفجع بمواقع التواصل الإجتماعي.

خيل لي، في البداية، أنها كذبة أخرى من الأكاذيب التي يتوسلها البعض لجلب الانتباه إلى صفحاتهم أو مواقعهم الإلكترونية في أيامنا هذه.

لكن سرعان ما تبدد التوجس والشك.

سرعان ما استقر اليقين على يقينية الخبر عندما اطلعت على تدوينات عدد من الأصدقاء التي كانت حصرا في نعي الفنان القدير مصطفى الزعري .

حينها لم أجد ما أمني به النفس أو أتوسله لإبعاد النبأ الأليم عن دوائر اليقين التي تستعصي على كل عوامل اختراق الريبة والشك التي تحركت بقوة في نفسي فور وقوع عيني على الخبر، من قوة الدهشة ومن هول الصدمة ربما.

لكن، لا بد مما ليس منه بد، حتى ولو كان عبء النعي ثقيلًا وثقيلًا جدا، فلا مناص من التحمل، ولا سبيل إلى الهروب من هكذا عبء وهكذا ثقل.

لقد رحل الزعري وليس رحيله أي رحيل.

هناك عدد كبير من الأعزاء، أصدقاءً وإخوةً ورفاقًا، فنانين ومبدعين رحلوا وهم يرحلون بوتيرة متسارعة مع تقدم عمري وأعمارهم أو بطريقة لا يعرف أسرارها العشوائية غير الموت ربما، لكنه مع ذلك رحيل يبدو من منطق الأشياء.

رتابة الحياة الدنيا: ميلاد وفرحته ومرض وآلامه ورحيل ونصيبه المؤكد من الأحزان ومن الدموع. ولكن ذلك يظل ضمن منطق الأشياء.

فمن سيدفن من؟ ومتى؟ هذا سؤال متواتر بين الإنسان ونفسه وبينه وبين أحبائه.

يقال جهارًا مرات قليلة ربما، لكنه سؤال وجودي عميق ملازم للنفس لا يكاد يغيب عنها حقا إلا في ما ندر من الأحوال.

هذا قدر. هذا قضاء وقدر، نقول عبر لغاتنا المختلفة، استكانةً وخضوعا، تعبيرًا عن يقين عاجز حتى عن التفكير في تغيير منطق الرحيل المتواتر الأبدي بل وعن استعادة السكينة إلى رجة الأعماق وتوتراتها جراء وقع صدمة ساعة الرحيل.

لكن الرحيل الذي يبدو متماثلا في مواصفاته البادية بل والذي يمكن الاعتقاد بكونه وحيد جنسه بين بني البشر، ليس كذلك في الواقع. فكل رحيل فريد نوعه. وهذه الفرادة بالذات هي التي تقف حاجزًا رئيسًا أمام تقديم شهادة عن الزعري .

إن شهادتي في الفقيد مجروحة بحكم علاقات ترجع إلى زمن الطفولة .

إذن ، لا تنتظروا مني شهادة الوقائع والأحداث والحديث عن إنتاجات الراحل في التمثيل والفكاهة والمسرح والسينما ، لأنها لا تفي بالغرض في هذا الرحيل، وفي هذا الراحل الفكاهي الكبير بالذات. لذلك اخترت لشهادتي أن تكون شهادة الوجدان العميق، شهادتي الفريدة النابعة من وشم الطفولة.

عرفت الزعري بقلبي.

استوطن الوجدان قبل أن تستقر عيني على عينه في سينما باريس بوجدة لذلك فأنا سأنطلق من وجداني في شهادتي المتواضعة هذه في حق فقيدنا الكبير.

الزعري ، أشهر الفكاهيين المغاربة ، تميز ببساطته الانسانية الصادقة، وعفويته بتقديم أعماله ؛

الفنان المغربي الزعري ، يعد رمزا للفكاهة بالنسبة لجيلنا ،والذي كان ينجح رفقة الداسوكين في حملنا معه الى عالمه البسيط المفرح ،وكنا ساعتها نفلح في مشاركته كل ذاك الفرح ،شخصيته المتفردة ،التي تفيض “سذاجة “و”براءة “من خلالها كان يذرع بنا في عالمه الذي طالما ابهرنا .بعيدا عن “بهرجة “متعمدة” هدفها تجاري محض بئيس،على شاكلة أغلب ما يروج الآن ،والذي يقرفنا ولم يحقق لدينا أي متعة ،فوليناه ظهورنا ،وإعجابنا ،وماكنا على ذلك بنادمين .

احببناه …بكل تقدير واحترام … روح مرحة …ممثل بسيط…كوميدي …ابتسامته لا تخفي عفويته…خفيف الروح ، من هنا كان يستقبل في البيوت على التلفزيون وخشبات المسرح باعجاب مستحق وترحاب كبير من طرف المغاربة …

ننحني احتراما لك ايها الفنان الكبير …ايها الفنان المغربي…سلاما سلاما…

الزعري…فنان بالطبع والطبيعة …بالفطرة والغريزة …عفوي وتلقائي …من هنا كان الصدق …وكان الحب…

الزعري …فنان …بدون مساحيق هو فنان …بدون تكلف هو فنان …بدون تصنع هو فنان …هو إنسان … …هو مغربي …

عرفنا الضحكة عندما تنبعث من الأعماق …عرفناها وعشناها مع الزعري في صغرنا ..

عشقنا المسرح ، عشقنا الفكاهة ، عشقنا البساطة ، عشقنا بلادنا بإطلالة الزعري مع الداسوكين….

رحمك الله أيها الفنان العفوي مصطفى الزعري وأسكنك خير جناته بقدر ما أسعدتنا وانتزعت البسمة من على شفاهنا مرات ومرات رغم أنف زمن تبدلت فيه الأمزجة واعترت فيه حيواتنا المتاعب والأكدار.. ربما قدرنا ان نفقد جميع من نحب حتى من أثروا ذاكرة طفولتنا بوميض توهجهم في تقديم فن نقي بعيدا عن التفاهة والاسترزاق .. يوم حزين الزعري أضافه رحيلك عنا إلى قائمة الأيام الحزينة فوداعا …

ليس سهلا ان نستوعب اليوم رحيل الزعري..انه ليس رحيلا لكوميدي كبير فقط …انه رحيل لمكون من مكونات هويتنا …ثقب في الذاكرة والوجدان …يتم للفن المغربي في تجلياته الإبداعية التلقائية…