عدت إلى تنغير، بعد سنوات طويلة من الغياب. لا أخفي أن العودة إليها سائحا، ليست كالإقامة بها عاملا (مُدرِّسا).
بقدر ما تمنحنا الإقامة الفرصة لاستكشاف المكان، بقدر ما تحجب عنا دهشة اللقاء الأول. الإقامة تقيم في العادي المتكرر، بينما السياحة تقيم في الطارئ العابر. غير أن في العابر، ثمّة تتفتّقُ أجلُّ المُتع. وكما أن السياحة لا تعدو مهرجانا للعين، فإن الإقامة تغدو استبطانا للتفاصيل.
زرت تنغير، بعد غياب، كأنني أزورها أول مرة. المدينة، الحاصلة بين مضائق تودغا، من بين أرفع المدن المغربية شمائل: رحابة صدر، وسطوع ضوء، ورخاء عيش. بها، اجتمعت الأضداد، والتقت التقابلات: الصحراء بالجبل، والواحة بالثلج. هادئة، تهفو إليها الأبصار المهتاجة، من كل فج عميق.
أقمت بأكنافها أربع سنوات، وإن بعيدا عن مسقط القلب. بها، تابعت قراءة معظم نصوص الأدب المؤجلة، وبها شرعت في كتابة ديواني "فقط". الزمن يمر بطيئا، كأن اللحظة بيوم، والبرهة بشهر. لذلك، فالمدينة ظلت الأنسب لإنجاز المشاريع الشخصية الهائلة.
آويت بها إلى وحدتي المطمئنة، على الرغم من كثرة الأصدقاء والرفاق. كنت صديق الجميع في العلن، وصديق خلوتي في السّر. قال لي أحمد بلبداوي، وقد كان الشاعر المزاجي، فنا وأسلوبا، أستاذي بالمدرسة العليا، بعد أن علم بمكان تعيينني: إنما الشعر يكتب في المغاور والجحور.
فعلا، تنغير مغارة هائلة. من فوهة جوفها، يتسرب شلال ضوء غامر، وبيت شعر نافر.