رأي

عبداللطيف مجدوب: موجة جياع قد تأتي على اﻷخضر واليابس !

    في ظل الزيادة الحادة في معدلات الجوع واتساع هوة الفقر والهشاشة ، والاحتباس الحراري وندرة المواد الأولية وكذا احتدام الصراعات والحروب وانسداد آفاق الشغل ، تحتدم الرؤى والتوقعات المستقبلية الحالكة ، وقد تكون إيذانا لمخاض سيل جارف ؛ يأتي على الأخضر و اليابس .

مدخل..

تؤشر بعض الإحصائيات ؛ في مجال الجغرافيا الاقتصاديةEconomic Geography ؛ وتبعا لمنظمة الفاو، منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) أن نسب المجاعة في العالم آخذة في التصاعد ، سيما في العقد الأخير من الألفية الثالثة ، إذ وصلت إلى 260 مليون نسمة فى 98 بلدا خلال سنة 2022 وأن ربع مليار من الجوعى زاد بحدة ، كنتيجة حتمية لانعدام الأمن الغذائي ليصل نسبة %22,7 قياسا مع نسبة %21,3 سنة 2021 ، وأن أكثر من ربع مليار شخص يعانون من مستويات قياسية من الجوع ، وفي ذات السياق ، صدر حديثاً تقرير عن منظمة أكسفام ( Oxfam). (الاتحاد الدولي للمنظمات الخيرية) ، يشير إلى أن " ثروات الملياردينارات زادت بمقدار 3,3 تريليون دولار في سنة 2022 ، بينما أصبح ما يقرب من 5 مليار شخص ؛ على مستوى العالم ؛ أكثر فقرا" ، أو بمعنى آخر إن السياسة الاقتصادية المهيمنة تعمل بمبدأ "أن يزداد الغني غنى ويزداد الفقير فقرا" ، وبهوة فارقة هي وراء كل الانتكاسات والحروب والمجاعة في العالم .

   دواعي ظاهرة عدم الأمن الغذائي

يمكن القول بأن الحروب وويلاتها ؛ كانت على الدوام ؛ أبرز الأسباب في انتفاء ضمان الأمن الغذائي ، وقد كان لحرب روسيا وأكرانيا أكبر الأثر في إنتاج وتسويق مواد غذائية وطاقية ، كالغاز والنفط والحبوب والأسمدة ، ما رفع تكلفتها في السوق الدولية ، لتخلف أضرارا حادة على المداخيل وحجم استهلاك المواطن العادي ، تجسدت بصورة ملحوظة في ارتفاع معدل أسعار المواد الاستهلاكية إلى %300 عما كانت عليه منذ أربع سنوات قبل اندلاع هذه الحرب ، أي بعد ثلاث سنوات من اجتياح فيروس كورونا العالم ، والذي عمل على شل حركة التجارة الدولية .

 كما يلاحظ وجود علاقة عضوية بين ظاهرة المجاعة والأنظمة السياسية الحاكمة ، أو بالأحرى الأنظمة الشمولية والاستبدادية والعسكرية ، التي تحرص على الهيمنة الاقتصادية ومصادرة الثروات وكنزها بأيادي طبقة اجتماعية معينة ؛ تتحكم في جميع خيرات البلاد ، ما أجبر معظم أهاليها على النزوح والهجرة إلى الشمال طلبا للغذاء وبحثا عن فرص الشغل ، وتدفق هؤلاء أخذت رقعتها تتسع سنة بعد أخرى ، بالرغم من حجم الإعانات والمنح التي تتلقاها هذه البلدان ؛ مصدر الهجرة ؛ من دول أوروبا ؛ قبلة المهاجرين غير النظاميين ، وغني عن البيان أن مياه كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الكاريبي.. وأمريكا الجنوبية تشهد بالتقريب يومياً كوارث غرق عشرات المئات من المهاجرين الأفارقة والآسيويين .

    كما تجدر الإشارة ؛ وفي ذات السياق ؛ أن سوء توزيع الثروات في بلد ما ، هو الآخر يعتبر أحد الدواعي السياسية لتعميق الفوارق الطبقية ، وتوسيع هامش الفقر بين العديد من الشرائح الاجتماعية ، حتى إن معظمها يعيش على دخل يومي لا يتجاوز 1 دولارا واحداً.

كما يجمل بنا ؛ ونحن نبحث في أسباب المجاعة ؛ الإشارة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري ( Global warming) الذي تعاني منه الكرة الأرضية ، جراء تصاعد نسب أكسيد الكاربون في الهواء ، كنتيجة حتمية للطفرة الصناعية التي يمر منها العالم ، والثمن الذي على الإنسان أن يدفعه في شكل موجات تلوث شامل ؛ أصاب مساحات كبرى من المدن والبحار والأودية ، نتج عنه انحسار في التساقطات المطرية ، ونضوب المياه الجوفية ، ما أفضى إلى جفاف لإراضي زراعية وتراجع مهول في إنتاج الخضروات والفواكه.

      إرهاصات أولية لحركة تمرد الجياع

   شهدت شوارع مصر ؛ غداة ثورات الربيع العربي 2010 ؛ موجة احتجاجات مبطنة "بثورة الجياع" ، رافعة شعارات "أنا مشْ إخوان أنا جعان" ؛ "الجياع قادمون ، زئير الجياع" ، كما لاحظنا توالي موجات احتجاجات وتظاهرات في كل من العراق التي كانت أكثر دموية ، حيث قتل أكثر من 300 شخص ، ناهيك عن مناطق أخرى شهدت مذابح كإقليم هونكونغ والشيلي الذي تظاهر فيها أكثر من مليون نسمة.

     سيكولوجية الجائع ( Hungry Psychology)

   الإنسان الجائع ؛ إذا اشتد به الجوع والعطش ، ومن منظور السيكولوجية المرضية (Psychopathology ) انسلخ عن "أنسيته" وتصرف بمحض الغريزة وليس بضوابط اجتماعية ، وصار يبحث عما يسد به رمقه ويروي عطشه ، بكل الوسائل المتاحة ، حتى ولو اضطرته إلى خرق القوانين والأعراف ، فيسرق ويخرب ويقتل ويسفك الدماء ، وله استعداد منقطع النظير لكل تمرد وعصيان ، فضلاً عن عدوانية فجة يبديها تجاه الشخص الشبعان .

هذا النموذج البشري "الجائع" هو أقرب إلى العنصر الأولي لاندلاع أي تمرد وعصيان وهجوم ، ولولا استتباب الأمن لكان هذا النموذج البشري وأمثاله الهاجس الأكبر لكل إنسان ينشد الأمن والسلام .

   مثال تمرد الفنيدق

   قادت ثلة من الأفارقة الجانحين ؛ بمن فيهم جزائريون ؛ تمردا بباب سبتة و الفنيدق ، وبأعداد غفيرة بحثا عن وسيلة للعبور ، ولولا إستعانة السلطات الإسبانية بقوات الأمن المغربية ، لكان التمرد قد تحول إلى أحداث ووقائع سطو وتخريب وتدمير ، ويمكن اعتبار هذا التمرد مقدمة لقيام ثورة جياع ، أشبه بقيام قطعان من الجرذان بشن غارة على مخازن الحبوب بأنحاء المدينة.

   هل أجهزة المراقبة كافية لرصد عصيان مدني ؟

حري بنا الإشارة إلى أن العديد من الدول والحكومات العربية ؛ وتحسبا لكل طارئ قد يخرج عن طوق التحكم ؛ أقدمت ؛ وفي ظل ثورات "الربيع العربي" ؛ على تقوية ترسانتها من منظومتها الأمنية ، كما ضاعفت من أجهزتها الإستخباراتية ، فعملت على بثها داخل الحواضر والمدن والقرى والأرياف.. ؛ وبموازاة ذلك ؛ جلبت آليات تكنولوجية ذكية ؛ تعمل على اختراق الهواتف ومراقبة مكالماتها ورسائلها ، بل عمدت إلى تقنين مواقع التواصل الاجتماعي ، إلا أن هذا التشدد في التحصينات ؛ ومهما كانت درجتها عالية في الرصد والمراقبة والمتابعة ؛ فلن تفلح في وضع المجتمع برمته تحت أعينها ، لتحاشي أي حركة تمردية ، فهناك أساليب أخرى "منفلتة عن المراقبة" كانتشار مواقع إلكترونية جماعية خاصة ؛ يلجها أشخاص وجماعات بمفاتيح وأرقام سرية معقدة ؛ تؤمن لهم رسائلهم واجتماعاتهم وقراراتهم ، وهي من العسير اختراقها.

مثل هذه المواقع وأشباهها يمكن اعتبارها ؛ بمعنى من المعاني ؛ خلايا نائمة ، بمقدورها أن تنشط في كل لحظة ، وتستقطب لها جماهير عريضة من مجتمع العاطلين والمتذمرين والساخطين والحاقدين والجائعين.. وقد يكون نشاطها مقدمة لاندلاع عصيان مدني ، ومن ثم شنها هجوما على النظام العام.

     أعراض قيام تمرد!

هي إشكالية معقدة ، طالما تناولتها بالبحث والتمحيص حكومات على مر العقود تحت عنوان رئيس "متى يحدث التمرد ، وما هي تمظهراته ؟" ، لكن وجدت أن وسائلها لرصد مثل هذه الزوابع الاجتماعية تظل قاصرة ، ما دامت المجتمعات خاضعة لعملية تطور جد معقدة ، لا يمكن حصر العناصر الفاعلة فيه ، وبالتالي لا مجال لضبط وقائعها أولا بأول ، إلا أن هناك عناصر بمواصفات بارزة ، يمكن لتضافرها أن يفضي إلى ما يشبه الانفجار والتمرد والعصيان ، منها التذمر واليأس وتصاعد نسب الفقر ، وانسداد آفاق فرص الشغل ، وانقطاع حبل التواصل بين القاعدة والقمة ، أو بالأحرى بين الحاكم والمحكوم ، آنئذ ؛ وعبر هذا السياق الاجتماعي المحموم ؛ يغدو ممكنا وفي كل لحظة ؛ أن يسفر عن انفجار لا يمكن إدراك مداه .