تحليل

مغرب التَّضامن والتَّعاضد والتَّعاون والتَّآزر

أحمد الحطاب

لقد سبق أن قلتُ في إحدى مقالاتي المنشورة على صفحتي أننا، جميعا كمغاربة، يوجد في أحشائنا أو في أي ركن من أركان أجسامنا، ولو درَّة بسيطة من حب الوطن. درَّة، ربما تكون نائمة أو في حالة سبات، لكنها، دائما، على أُهبة لتنفجرَ في أية لحظة من اللحظات.

وهذا الانفجار يحدث عندما يمر الوطنُ من لحظات فرحٍ أو حزنٍ، أي عندما يتمكَّن هذا الوطنُ من تحقيق إنجاز عظيم أو يتعرَّض لطارئة من الطوارئ المُحزنة. وهنا، سأستشهد بحَدَثين عظيمين عبَّر، من خلالهما، الشعبُ المغربي عن حبِّه لوطنه بجُرعة عالية من الفرح والسعادة. الحدثُ الأول يتعلَّق برجوع السلطان محمد بن يوسف من المنفى والحدث الثاني يتعلَّق بالمسيرة الخضراء التي دعا المرحوم الحسن الثاني إلى القيام بها.

الحدث الأول : عودة السلطان محمد بن يوسف من المنفى. كلنا نعرف أن المغربَ كان خاضعا لما كان يُسمَّى، في عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، بالحماية الفرنسية في الامبراطورية الشريفة protectorat français dans l'empire chérifien، ابتداءً من سنة 1912. لما اعتلى السلطان محمد بن يوسف (الذي سيتحوَّل ابتداءً من سنة 1957 من سلطانٍ إلى ملكٍ) العرشَ، لم يتوقف عن المطالبة باستقلال المغرب عن الاستعمارين الفرتسي والإسباني. وقد تُوِّجت هذه المطالبة، أولا، بوثيقة الاستقلال manifeste de l'indépendance التي صاغها آنذاك الوطنيون les nationalistes وقدَّموها للسلطان محمد بن يوسف في 11 يناير 1944. ثانيا، تُوِّجت كذلك هذه المطالبة بالخطاب الذي ألقاه بمدينة طنجة السلطان محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس فيما بعد) يوم 10 ابريل 1950 وطالب فيه بصريح العبارة باستقلال البلاد. بالطبع، هذه المطالبة لم تُعجب فرنسا، وبالأخصِّ، المقيمين الفرنسيين الذين تعاقبوا على الإشراف على تنفيذ الحماية الفرتسية على المغرب. وحتى يتم إجهاض هذه المطالبة باستقلال المغرب، تمَّ نفيُ السلطان محمد بن يوسف وأسرته، من طرف المقيم العام بالمغرب، المارشال جوان maréchal Juin، يوم 20غشت 1953، في مرحلة أولى إلى كُرسيكا Corse ثم إلى مدغشقرMadagascar بمدينة أنتسيرابي Antsirabé. بعد كفاحٍ شرسٍ، دام أكثر من سنتين، قاده الوطنيون والفدائيون، عاد محمد بن يوسف من المنفى يوم 16 نوفمبر 1955.

وقد كنتُ شاهدَ عِيانٍ لهدا اليوم العظيم في تاريخ المغرب. كان عمري آنذاك لا يتجاوز 12 سنة إد كنتُ تلميذا بالمدرسة الابتدائية بمدينة الشماعية، وبالضبط، في السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية. يومُ عودة محمد بن يوسف من المنفى كان يوما تاريخيا في مسيرة المغرب نحو الحرية والاستقلال. بمجرَّد ما تم الإعلانُ عن رجوع السلطان محمد بن يوسف من المنفى عن طريق الإذاعة، حتى هب الناسُ، من جميع الأعمار، عن بكرة أبيهم وملئوا الشوارعَ والأزقة والساحات العمومية مشيا على الأقدام أو ممتطين شاحناتٍ من كل الأحجام، ومُردِّدين عبارات "يحيى الوطن"، "عاش الملك"، "تسقط فرنسا"، "يسقط الاستعمار"... ومردِّدين كذلك أناشيد وطنية من تأليف وألحان مناضلين من حزب الاستقلال. لقد كان، فعلا يوما مشهودا عبَّرَ فيه المغاربة عن حبِّهم لوطنِهم ولملكِهم وللأسرة العلوية الشريفة. يوم مشهودٌ عبَّرَ فيه المغاربة عن تشبُّثهم بالعرش العلوي وبالسلطان محمد بن يوسف الذي لم يدَّخر أي جُهد ولم يهدأ له بالٌ من أجل استقلال المغرب. تحمَّل إهانةَ عزله من العرش، كما تحمَّلَ إهانةَ نفييه وإبعادِه عن شعبه الذي أقام الدنيا وأقعدها من أجل رجوعه من المنفى.

الحدث الثاني : الإعلان عن تنظيم والقيام بمسيرة خضراء نحو الصحراء المغربية. لماذا نُعِثت هذه المسيرة ب"الخضراء"؟ لأنها مسيرةٌ سلمية سلاحُ المشاركين فيها القرآن الكريم. دعوني، أولا، أقول بعض الكلمات عن هذه المسيرة. إنها فعلا فكرةٌ عبقرية من ملكٍ عبقري اسمُه الحسن الثاني رحمه الله. إنها فكرة لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ البشرية. أن تُنظَّمَ مسيرةٌ سلميةٌ شارك فيها 350000 ألف مواطن ومواطنة ليس بالأمر الهيِّن من الناحية اللوجيستكية والصِّحية والأمنية والتَّموينية. إنها سهلةٌ في القول وصعبةٌ غايةَ الصعوبة في التَّطبيق. لكنها، فعلا، تحدَّت كل الصعاب وتحقَّق هدفُها النبيل المتمثِّل في تحرير الصحراء المغربية من احتلال المُستعمر الإسباني. 

فبمجرَّد ما أعلن الملكُ الحسن الثاني، رحمه اللهُ، عن تنظيم هذه المسيرة، حتى هب الناس من كل حدبٍ وصوبٍٍ للمشاركة فيها. لماذا أقول "من كل حدب وصوب"؟ لأن المشاركةَ فيها لم تقتصرْ فقط على المواطنات والمواطنين المغاربة. بل كل الدول الشقيقة والصديقة أبدت رغبتَها في هذه المشاركة. وأقل ما يمكن قولُه عن مشاركة المغاربة في هذه المسيرة أنها تعبيرٌ صارخ عن تشبُّث المواطنات والمواطنين بوحدة ترابهم. الوحدة الترابية التي أصبحت، بعد تنظيم المسيرة الخضراء، القضية الوطنية الأولى التي تتصدَّركل الأولويات الوطنية. ليس هناك، على الإطلاق، أية مواطنة وأي مواطن مستعدٌّ أن يتسامحَ مع أيٍّ كان في مغربية صحرائه واكتمال وحدتنا الترابية المشروعة. ولهذا، فمشاركة المغاربة في المسيرة الخضراء، بكثافة، لم تكن حدثا عابرا. بل إنها تعبيرٌ، لمَن اراد أن يتَّعظَ، بأن وحدتنا الترابية كانت ولا تزال وستبقى مترخِّسةً في وِجدان المغاربة إلى أن يرثَ اللهُ الٍأرضَ ومَن عليها. هذا إندارٌ لمَن لا يريد أن يتَّعظَ! 

هذان الحدثان يعبِّران، بكل وضوح، عن تشبُّثِ المغاربة بوطنيتِهم patriotisme وعن التآمهم حول ملكِهم والعرش العلوي المجيد الذي، كما سبق الذكرُ، هو رمز وحدة البلاد واستقرارها. فكل ما يمسُّ وطنَهم، في السراء والضراء، يمسُّهم في صميم وجودِهم. 

فليس بغريب على المغاربة، قاطبةً، الذين ضحَّوا بالنفس والنفيس من أجل استقلال بلدِهم، إن هم هبُّوا لمواساة ومساعدة إخوانهم المغاربة ضحايا زلزال الحوز. إنهم، فقط، استجابوا لما يمليه عليهم انتمائهم لهذا الوطن patrie ولِما هو مترسِّخٌ في وِجدانهم من كرمٍ وحِسِّ التَّضامن والتَّعاضد والتَّعاون والتَّآزر. بل إنهم أبانوا عن تنافسٍ شريف هدفُه الأول والأخير هو إسعادُ ضحايا الزلزال وإرجاع البسمة لأفواههم والأمل في مستقبلِهم. والتَّضامن والتَّعاضد والتَّعاون والتَّآزر سيبقون ذكرى، من خلال الصور والفيديوهات، وعِبرةً للأجيال القادمة التي ستفتخر بسلفٍ كانت مزاياه أخلاقاً عاليةً وقيماً إنسانيةً ساميةً. 

كم أنتَ كريمٌ يا وطني. وكم نحن فخورون بك وببناتك وأبنائك. دمتَ عاليَ الشأن ودامت لك العِزَّةُ والكرامة. إنه، يا سيداتي ويا ساداتي، مغرب التَّضامن والتَّعاضد والتَّعاون والتَّآزر. انتهى الكلامُ!!!