تحليل

ملف الصحراء.. من التدبير إلى التغيير

نوفل البعمري (محام بهيئة المحامين بتطوان)
خطاب افتتاح الدورة التشريعية الذي ألقاه الملك محمد السادس في قبة البرلمان يوم الجمعة 11 أكتوبر2024، لم يكن خطاباً عادياً باعتباره موجهاً لممثلي الأمة في مناسبة جرت العادة أن يلقي فيها الملك خطابه، بل أهميته الكبرى تبرز من حيث تخصيصه لجل مضامينه لقضية الصحراء في توقيت شهد فيه الملف عدة تحولات في السنوات الأخيرة على الأقل منذ سنة 2020 الى الآن؛ يمكن إجمالها في:

استكمال تحرير الجنوب المغربي جهة الكركرات في عملية عسكرية شكلت سابقة في تاريخ التحركات التي تمت بالمنطقة من خلال تحقيقها لكل أهدافها دون إراقة الدماء، مع طرد كل العناصر المليشياتية و تعبيد الطريق الحدودية بين المغرب و موريتانيا، كما استكمل المغرب معه في تحرك حاز على دعم دولي سيادته الكاملة لحدوده مع موريتانيا فتم تأمين مرور المركبات و العربات، ليتم طي مسلسل من الاستفزازات المتكررة للمغرب بجنوبه.

انتزاع اعترافات دولية داعمة لمغربية الصحراء و مبادرة الحكم الذاتي منها الموقف الامريكى، ثم الألماني و الإسباني و الفرنسي أخيراً وليس آخراً موقف دولة الدنمارك…حتى وصل عدد الدول الأوروبية التي يتنوع موقفها بين هذه المواقف إلى 19 دولة أوروبية من دول الإتحاد الأوروبي، في تحول كبير ينتصر للملف المغربي الذي تجسده مبادرة الحكم الذاتي.

افتتاح قنصليات أجنبية بمدينتي الداخلة و العيون، و هي قنصليات لبعثات دبلوماسية دولية لدول عربية و إفريقية و لاتينية و هي البعثات التي تشكل دعماً صريحاً لمغربية الصحراء و ليس فقط لمبادرة الحكم الذاتي، و هي البعثات التي تجسد السيادة الكاملة للمغرب على كل ترابه.

صدور قرارات عن مجلس الأمن التي أصبحت منذ سنة 2017 تتبنى خيار مبادرة الحكم الذاتي و معاييره السياسية و تُكرسها كحل وحيد لطي هذا الملف، وفقاً للرؤية المغربية التي انتصر إليها مجلس الأمن و اعتمدها كطريق للحل يحقق المعايير التي قام عليها اتفاق وقف إطلاق النار، و العملية السياسية التي أطلقتها الأمم المتحدة، هي العملية التي و إن كانت متوقفة فهي توقفت في نقطة تحول تهدف إلى تحميل الدولة الجزائرية كامل مسؤولياتها السياسية تجاه الملف و تجاه كل العراقيل التي توضع لكي لا يتم طيه.

قرب صدور قرار أممي نهاية الشهر الجاري، و هو القرار الذي يُنتظر أن يكون متوافقاً مع المسلسل السياسي و تطوره الميداني و الواقعي الذي انتهى إلى انتزاع اعترافات متتالية بصواب المقترح المغربي، لذلك القرار سيصدر متأثراً بكل هذا السياق السياسي الايجابي المُنتصر للمغرب، و سيكون متماشياً مع كل هذا التراكم الحاصل في الملف لصالح مقاربة تستند إلى القانون الدولي و على الدفع بحل يحقق التعايش، رابح-رابح ينهي في نهاية المطاف مع معاناة سكان مخيمات تندوف و محتجزيها.

هذه التحولات كلها التي حدثت و التي يمكن إرجاعها للإستراتيجية التي وضعها المغرب منذ سنة 2015 كانت مرتبطة بتدبير الملف وفقاً لرؤية تعتمد على مقاربة الشراكة التي تحترم السيادة الكاملة للمغرب على كامل ترابه، و هو تدبير ناجع حقق من خلاله المغرب مكاسب سياسية لصالح الحكم الذاتي و الاعتراف المتزايد بمغربية الصحراء، و اقتصادياً من خلال ربط أي اتفاق اقتصادي باحترام السيادة الكاملة للمغرب على صحرائه مما كان مناسبة لاستفادة ساكنة المنطقة من عائدات هذه الإتفاقيات الاقتصادية و هي الإستفادة التي دفعت بالمنطقة نحو التنمية، كان المغرب في تدبيره لهذه العملية معتمداً على سياسة تنويع الشراكات و هو التنويع الذي جعله غير خاضع لهذا التكتل أو ذاك، و لتقلباته السياسية فكان المغرب منفتحاً على كل الأسواق العالمية مما جعله في منأى عن أي ابتزاز سياسي أو اقتصادي له، و مستنداً على موقف عبر عنه الملك لا شراكة اقتصادية دون احترام السيادة المغربية.

الخطاب الملكي لهذه السنة يريد الإنتقال بالملف من مرحلة التدبير، تدبير تفاصيل الحل و تدبير الشراكات و تنوعها، و تدبير الرهانات الكبرى المرتبطة بالملف، إلى مرحلة جديدة تحت مسمى التغيير، تغيير الأسلوب و الخطاب، و تغيير طبيعة التحرك الذي يقوم به المغرب وفق مقاربة جديدة حددها الخطاب الملكي و هي المقاربة التي توجه فيها الملك بالدعوة لكل الفاعلين و الدبلوماسيين و السياسيين و البرلمانيين و عموم المواطنين ممن سماهم في توصيف بليغ ب"المواطنين الأحرار" بالإستمرار في القيام بمهام دبلوماسية كُلُّ من موقعه و من المسؤولية الملقاة على عاتقهم للمساهمة في القيام بمهام التغيير التي طالب بها الملك و نادى بها في خطابه، و هو تغيير معني به كل العاملين في مجال الدبلوماسية خاصة منها الدبلوماسية البرلمانية و هي الدبلوماسية التي طالبها الخطاب بتغيير أسلوب عملها من خلال إيجاد آليات للتنسيق بين قبتي البرلمان لتكون دبلوماسيتيهما ناجعة و فعالة، لكن هذه النجاعة لا يمكن أن تتحقق دون الاعتماد على الكفاءات داخل البرلمان، مع عدم إخضاع اللقاءات البرلمانية الدولية لمنطق الحسابات الضيقة التي تضيع الكثير من الفرص على المغرب، هو منطق لا يجب استعماله في ملف الصحراء و عمل الدبلوماسية البرلمانية التي يجب أن تُغير من أسلوب تحركها بجعلها تحركاً استباقياً، احترازياً، حازماً مبني على الفعل و التأثير الإيجابي، و غير مبني على رد الفعل و التحرك بعد وقوع ما يمكن أن يمس بموقفنا المشروع و الشرعي في ملف الصحراء سواء ما تعلق منها بالجانب القانوني، السياسي، التاريخي دعما لهذا التوجه الجديد، توجت التغيير في عملنا جميعاً لصالح القضية الوطنية.

خطاب افتتاح الدورة التشريعية لهذه السنة سيكون له ما بعده، من حيث الانتقال بنا من مرحلة تدبير الملف و تحولاته، إلى مرحلة التغيير، و هي مرحلة تستدعي الكثير من الفعل و الحزم و الوضوح.