رياضة

كأس العرب أم كأس الناطقين بالعربية ؟

محمد كرم

بمجرد الإعلان عن تنظيم دورة جديدة من "كأس العرب" تعالت من جديد أصوات للتنديد بهذه التظاهرة الرياضية على اعتبار أن الحدث تعبير صارخ عن عنصرية مقيتة بما أنه الوحيد من نوعه في العالم الذي يقام على أساس عرقي. حتى في أدغال أفريقيا هناك من ذهب إلى حد المطالبة بإقصاء دول شمال أفريقيا من المنافسات الأفريقية بسبب مشاركتها المنتظمة في هذه البطولة. ففي عرف هؤلاء الانتماء الجغرافي أهم من الانتساب العرقي، و من ما يزال يؤمن بأولوية انتمائه العرقي و القبلي غير مساير للعصر و لا مكان له بين دول القارة الأخرى.

مما لا شك فيه أن هذا الموقف ينطوي على سوء فهم هائل. فمعظم الناس بالقارات الخمس يجهلون حقيقة أن ما يصطلح عليه ب "العالم العربي" هو عالم متعدد القوميات لا يمثل العرب الأقحاح فيه سوى نسبة بسيطة (هناك إحصاء غير رسمي يحدد هذه النسبة في 8%)، كما يجهلون حقيقة أن اللغة العربية هي القاسم المشترك الأهم ـ إلى جانب الدين الإسلامي بطبيعة الحال ـ بين مكونات هذه الكتلة البشرية الضخمة و الموزعة جغرافيا بين قارتين. نعم، اللسان العربي حاضر بشكل شبه مطلق بالأقطار المكونة لهذا العالم ما يجعل منه لسانا مشتركا يسهل التعايش و التواصل ، و حتى أولئك الذين لم يرضعوا هذه اللغة من أثداء أمهاتهم فإنهم وجدوها في انتظارهم بفصول الدراسة.

كلنا إذن مصنفون كعرب بغض النظر عن انتماءاتنا العرقية الحقيقية. و حتى أضفي على كلامي المزيد من الضبط نحن في الواقع ناطقون بالعربية لا أكثر و لا أقل. و قد كان من البديهي أن يوازي اكتسابنا للغة القرآن انغماس كلي في الثقافة العربية أيضا (معرفة الكردي العراقي مثلا بشعراء العرب تفوق بكثير معرفته بشعراء بني جلدته، و استمتاعه بالموسيقى العربية يفوق في حالات كثيرة استمتاعه بألحان مطربي قومه). هذا ما يجمعنا و يجعل منا جسما واحدا رغم غياب التجانس و وحدة الرؤى بشأن العديد من القضايا و المواقف و الممارسات أحيانا. حتى الصومالي و الجيبوتي و القمري أصبحوا جزءا منا بفعل تعهدهم بخدمة اللغة العربية و تكريس تدريسها و نشرها ببلدانهم.

و بالنظر إلى هذه الحقيقة الساطعة فإنه من البديهي أن تعترف كل دول المعمور بوجود كتلتنا و بخصوصياتها التي تميزها عن باقي الكتل. ففي عيون الأوروبيين و الأمريكيين و الآسيويين ليس ثمة فرق يذكر بين الموريتاني و السعودي و الأردني مادام أنهم ينتمون إلى العالم العربي بالضبط كما أنه لا فرق بين التنزاني و الغامبي و الكونغولي ماداموا كلهم أفارقة. لهذا السبب ـ و ربما لاعتبارات أخرى أيضا ـ لم يتردد الاتحاد الدولي لكرة القدم في مباركة هذا الحدث الرياضي و احتضانه بأن أطلق عليه إسم FIFA ARAB CUP .

و بأي مبرر نقبل ب "كوبا أمريكا" ـ حيث هناك إقصاء واضح للدول الأمريكية الناطقة بالإنجليزية ـ و بكأس الخليج و الألعاب الفرنكوفونية و ألعاب الكومنولث و نرفض في المقابل الاعتراف بمشروعية بطولة رياضية تجمع منتخبات ما يوحد أفرادها أكبر بكثير مما يفرقهم ؟ ما "كأس العرب" في الحقيقة سوى فرصة إضافية لخلق و لو حد أدنى من الفرحة و الفرجة و الإثارة في سياق إقليمي و دولي جد مضطرب سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و في زمن ما فتئت فيه طبول الحرب تدق هنا و هناك. لا داعي إذن لتحميل هذه التظاهرة ما لا تحتمله، و لنعلم جميعا أن الحديث عن العرق "الصافي" حديث متجاوز منذ أن أصبح الاختلاط سنة ثابتة بفعل ابتعاد الإنسان عن موطنه الأصلي أو بفعل استقباله للأغراب و الاحتكاك بهم. لهذا السبب، مجنون من يعتقد بأ ن المشاركين في مختلف التظاهرات العربية الرياضية منها و الفنية و الأدبية و الفكرية و العلمية و السياسية و غيرها يخضعون لتحليل الحمض النووي قبل السماح لهم بولوج ملاعب المباريات أو قاعات الاجتماعات. المشاركون عرب بلسانهم بالدرجة الأولى، و الدليل على ذلك الغياب المطلق للمترجمين. حتى معتقداتهم الدينية لا تهم المنظمين.

و على الرغم من استمتاعي بأطوار المباريات المبرمجة و التي سمحت لي الظروف بمتابعتها فقد انتابتني نوبات من السهو ، إذ وجدتني بين الفينة و الأخرى غارقا في طرح مجموعة من التساؤلات على ضوء ما كان يجري أمامي و ما كان يتفوه به المحللون.

كيف أمكن للمنتخب الفلسطيني مثلا أن يتجاوز الدور التمهيدي و يبصم على حضور قوي إلى حدود مرحلة الثمن ؟ هل كان من السهل على الدولة الفلسطينية إعداد فريق وطني تنافسي بالنظر إلى ما تعرفه البلاد من مآسي إنسانية هزت ضمائر العالم ؟ و هل كان من الضروري أن تسعى المنتخبات التي واجهها إلى تعميق جراح الفلسطينيين من خلاله ببذل كل ما في وسعها لسحقه و وقف مسيرته و إقصائه أم أن قوانين اللعبة و أعرافها لا تترك هامشا للاعتبارات الإنسانية ؟

و كيف أفلحت الحكومة السورية الجديدة في تخصيص حيز بأجندة عملها لتحضير منتخب جيد التدريب و بمعنويات عالية و مهارات متميزة و كلنا نعلم بأن هذا القطر الشقيق مازال بصدد لملمة جراحه بعد حرب أهلية طويلة و مدمرة ؟

و ماذا عن المنتخب السوداني ؟ هل جمع عناصره و أشرف على تدريبه الفريق أول عبد الفتاح البرهان أم أنه منتوج خالص لقوات الدعم السريع ؟

و ما هي حكاية الفريق الليبي الذي أقصي بالدور التمهيدي ؟ هل المشير خليفة حفتر هو من تولى الإنفاق عليه و على تنقلاته أم أنه حظي بعناية حكومة الوحدة الوطنية ؟

و من يا ترى احتضن المنتخب اليمني الذي منعه الحظ العاثر من بلوغ النهائيات ؟ الحكومة اليمنية المعترف بها عالميا أم عبد المالك الحوثي ؟

و لماذا اقتصرت مشاركة بعض الدول على منتخباتها الرديفة ؟ هل ثمة إكراهات حقيقية و مقنعة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون استخفافا بقيمة البطولة على الرغم من التحمس الشعبي الذي رافقها و الإمكانات المادية و اللوجستية و التقنية المعتبرة التي رصدت لها ؟

و مهما يكن، و بعيدا عن مناقشة مشروعية إقامة هذه التظاهرة من عدمها ـ و هي مناقشة عقيمة على أية حال ـ و بغض النظر عن ظروف استعدادات المنتخبات المشاركة و تركيبتها لا يمكن للمتابع إلا أن يقر بنجاح دورة هذه السنة على كل الأصعدة. فقد كان التنظيم احترافيا، و كان الضبط الأمني محكما، و كانت التغطية الإعلامية شاملة و دقيقة، و كان الأداء الكروي على أعلى مستوى، و كان التنافس على أشده حتى أنه لم نلمس أي فرق على الإطلاق بين المنتخبات "الكبيرة" و المنتخبات "الصغيرة" و لا أدل على ذلك من الفارق البسيط الذي انتصر به المنتصرون في معظم المباريات. الأكثر من هذا و ذاك فقد شهدت الملاعب إقبالا جماهيريا منقطع النظير إذ استقبلت مدرجاتها كما من عشاق كرة القدم فاق عتبة المليون متفرج قسم كبير منهم وفد من خارج قطر البلد المنظم ما أضفى على الحدث أجواء احتفالية رائعة.

لقد كان الحدث في مستوى التطلعات بكل تأكيد، و كل ما أتمناه هو أن يكف بعض المعلقين مستقبلا عن إزعاج آذاننا بكل ما من شأنه تبرير موقف المناوئين لهذه البطولة من قبيل التعصب المبالغ فيه لأمة العرب و العروبة و كيل المديح الزائد لشيم العرب و أخلاقهم و مواقفهم و تاريخهم.