في نهاية هذا الأسبوع، وقد توزّعت أيّامي بين مسؤوليات البيت وانشغالات المؤسسة، وبين التحضير للحلقات الأولى من بودكاست «في حضرة السؤال»، وجدتني مساء الجمعة أستسلم لنداءٍ خافتٍ لا يعلو صوته، لكن لا أحد يستطيع أن يُسكته: نداء الشعر.
فتحتُ بوابة المعلّقات، ودخلتُ على مهلٍ كمن يعود إلى بيتٍ قديم يعرف تفاصيله.
كان امرؤ القيس هناك، يشعل نار الرحلة في دمي، وطرفة يبتسم لتقلبات القدر، وزهير ينسج الحكمة خيطاً خيطاً. همستُ لهم جميعاً:
كم تغيّر العالم… وكم ظلّ الشعر هو الشيء الوحيد الذي لا يتغيّر.
ثم استدرت نحو الأندلس، فاستقبلني شوقي وحافظ إبراهيم وهما يتبادلان صدى الشوق، وشوقي يقيم منفاه في غربةٍ يتداخل فيها الحنين بالبرد. كلماتُهما أعادت إليّ طعم الوطن حين يُرى من بعيد… ذلك الوطن الذي يتجدد حين نفتقده، ويكبر في داخلنا كلما ابتعدنا عنه خطوة.
وبين قصيدة وأخرى، باغتتني نغمةٌ لمحمد عبد الوهاب، ثم أخرى لفريد الأطرش، ثم تدفقت موشحاتٌ كأنها تنهيداتٌ صوفيةٌ متوارثة عبر القرون.
وهنا بالذات، ارتجف قلبي حين مرّ طيف لسان الدين ابن الخطيب.
ليس لأنّ تاريخه مثقلٌ بالفتنة والمأساة فقط، بل لأنني كلما سمعتُ موشحاً له…
أستحضر روح والدي رحمه الله.
كان والدي يكتب عن ابن الخطيب، ويقرأه قراءة العارف لا الباحث، ويُدخلني إلى عالمه بجرأة العاشق.
كان رحمه الله ذا روحٍ شفّافة، خفيفة، مضيئة، تجعل اللغة في فمه تكاد تطير.
وكنتُ كلما أصغيت إلى حديثه عن ابن الخطيب، أحسّ كأن بينهما نسباً خفياً في الرهافة والنبل، وكأن موشحات الأندلس حين تمرّ بجانبي تحمل نفَسَه، وتعيد إليّ شيئاً من حضوره الجميل.
تذكّرتُه الليلة…
تذكّرتُ كيف كان يجرّني إلى مساحاتٍ لا يدخلها إلا من عرف أن الأدب ليس كلمات، بل روحٌ تتكلّم.
وفي قلب هذه الرحلة الليلية، جلستُ أخيراً أرتّب أفكاري حول التجربة الجديدة التي سأخوضها «في حضرة السؤال».
إنني أدرك أنني مقبلٌ على انتقالٍ من عالمٍ إلى عالم، وأنّ هذه الخطوة ليست سهلاً ولا عادياً.
فالذي اعتدتُ أن أفعله طوال سنوات، كان في جانب كبير منه إضاءات حول قضايا المجتمع، أما الآن فأمامي تجربة ذات نفسٍ آخر، وجرأةٍ أخرى، ورهانٍ لا يشبه ما سبق.
أسأل نفسي:
هل بإمكاني أن أضيف شيئاً؟
ولم أجد جواباً…
لأن الجواب – في النهاية – متروك للمشاهدات والمشاهدين.
ما عليّ إلا أن أفتح الباب، وأترك السؤال يمشي أمامي، لعلّي أجد في أثره ما يستحق أن يُقال.
ومع كل هذا الحراك في الفكر والذكرى، بقي شيء واحد يتسلل في الخلفية كنسيمٍ لا يُرى:
أننا في زحمة العمل، نخسر شيئاً أثمن من الوقت… نخسر الخلوة.
ما أحوجني، وما أحوجنا جميعاً، إلى خلوةٍ مع الله،
خلوةٍ تُعيد ترتيب الداخل،
وتلمّ شتات الروح الذي نبعثره في النهار،
وتعيد إلينا بوصلة القلب قبل أن نخرج إلى العالم بكلماتٍ لا نعرف هل تليق بنا أم لا.
ليلةٌ كهذه…
ليلةٌ تتجاور فيها المعلّقات والأندلس، والوالد وابن الخطيب، والشوق والموسيقى،
لم تكن مجرّد استراحة…
كانت استدعاءً هادئاً إلى باب السلام الداخلي،
ذلك الباب الذي لا يُفتح إلا إذا اختلينا بأنفسنا، وتخفّفنا من كل شيء إلا الصدق.






