ليست كل الوقائع التي تهزّ القيم في عمقها تحتاج أن تكون عظيمة أو صاخبة. أحياناً، تكفي حادثة صغيرة لتكشف حجم الشرخ الذي يتسلّل بصمت إلى مهنتنا النبيلة , نعاين نلاحظ ، نندهش ، نستنكر في دواخل الوجدان ، ثم نصمت !
حدثني أحد الزملاء من قدماء المهنة ممن عرفنا فيهم دماثة الخلق، وشرف الأصل، ورصانة الأداء عن واقعة مؤسفة مع أحد المحامين المتمرنين. واقعة لم يكن فيها اختلاف قانوني أو مهني، بل غيابٌ مؤلم لحدٍّ أدنى من الاحترام. فقد همّ المتمرن بالمرافعة قبل الزميل القديم، وحين ذكّره هذا الأخير بالأعراف التي تحكم جلسات القضاء وتضبط سير المهنة، تلقّى بالمقابل عبارات جارحة، و عنفاً لفظياً لا يليق بمقام الدفاع ولا بروح الزمالة.
انسحب المحامي القديم من الجلسة من دون أن يكلّف حتى من ينوب عنه ، انسحاباً يليق بكرامة من لا يقايض نقاء المبدأ بلحظة انفعال أو انحدار في السلوك. لكن الجرح الحقيقي لم يكن في الموقف نفسه، بل فيما يكشفه من ردة و انحدار وتقهقر خطير في منظومة القيم.
لقد أصبح بعض المتمرنين، وبعض الجدد في المهنة، يتعاملون مع قدماء المحامين بمنطق الإزاحة لا بمنطق الامتداد ، بمنطق التحدّي لا بمنطق التعلّم. صار هناك نوع من الازدراء الخفي أو المعلن، تمييزٌ على أساس السنّ، كأن التجربة باتت عبئاً بدل أن تكون قيمة مضافة.
والحال أن الحقيقة أبسط وأعمق في الوقت ذاته اعتبارا من كون القدامى ( لا احب كلمة قيادمة) ليسوا منافسين بل هم الذين يمدّون المشعل للخلف حتى لا ينطفئ نور المهنة. هم الذين بنوا بفضل تراكم التجارب والدفاع عن الحقوق والحريات وإتقان فنون المرافعة ما نعيشه اليوم من اعتراف بقدسية رسالة الدفاع.
في الدول التي سبقتنا حضارياً ومهنياً، يحظى كبار المحامين بمكانة خاصّة، احتراماً لرسالتهم، وتقديراً لرمزيتهم، وإيماناً بأن مهنة المحاماة هي مهنة النبل قبل أن تكون مصدر رزق. أما عندنا، فإن بعض مظاهر التعالي من الجيل الجديد توحي وكأن هؤلاء الشباب يعتقدون أنهم بمنأى عن الزمن، أو أنهم لن يبلغوا يوماً السنّ التي وصل إليها القدامى.
ولعل ما قاله الأديب jean d’Ormesson جان دورمسون يلخّص الحقيقة ببلاغة:
“كنتُ مثلكم يافعاً… لكن ليس مؤكداً أنكم ستصبحون في سنٍّ متقدّمة.”
J’ai été jeune , mais ce n’est pas sûr que vous allez devenir vieux
هذه العبارة ليست مجرّد حكمة، بل تذكير بأن احترام الزمن هو احترام للذات، وأن احترام من سبقونا هو شرط أساسي لارتقاء مهنتنا.
فلنجعل من هذه الحادثة درساً لا تهجماً. ولنجعل من الخلاف لحظة للتأمل:
كيف نريد أن تكون صورة المحامي؟ ومن أي قيم نريد أن تُبنى الأجيال القادمة؟
المهنة لا تُصان بالنصوص وحدها، بل تُصان أيضاً بسلوكنا اليومي، بطريقة وقوفنا أمام المحكمة، وبكيفية مخاطبتنا لبعضنا البعض.
ولْيُدرك الجيل الجديد أن القوة الحقيقية ليست في رفع الصوت، بل في رفعة الأخلاق.






