قلّما اجتمعت في شخصية واحدة تلك المفارقة التي يحملها أحمد التوفيق: مؤرخ يقرأ الزمن ببرودة العقل، وروائي يكتب العالم بحرارة الخيال، ووزير للأوقاف يضبط إيقاع الحقل الديني بدقّة مهندس أراد للنظام أن ينتصر على الفوضى.
لم يأتِ التوفيق إلى وزارة الأوقاف من حقول الفقه والعلوم الشرعية كما جرت العادة؛ جاءها من العلوم الإنسانية، من أرشيف التاريخ والمخطوطات والأسطورة والهوامش المنسية. رجلٌ يعرف أن الماضي ليس مجرد حكاية تُروى، بل طاقة يجب التحكم في تدفقها حتى لا تفيض على الحاضر. لهذا حين دخل الوزارة عام 2002 حمل معه عقلية المؤرخ المحافظ: تنظيم، تقنين، تجميد ما يمكن أن ينفلت، وتحويل الوزارة إلى هيكل إداري دقيق أكثر منه مجالاً للاجتهاد الديني.
أكبر بصماته ـ وربما أكثرها إثارة للجدل ـ كانت توحيد خطبة الجمعة. خطوة غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي، جعلت المآذن تتكلم بصوت واحد لا يتلعثم ولا يجتهد ولا يغامر. بالنسبة إليه، الوحدة ضمان الأمن الروحي، ولغة مركزية تضمن ألا يتحول المنبر إلى منصة سياسية أو فوضى خطابية. وبالنسبة لمنتقديه، كانت تلك الخطوة تعبيراً عن صرامة لا تتسامح مع الخارجين عن السرب، وتضييقاً على التعدد والتأويل والاجتهاد.
لكن التوفيق ليس فقط هذا الرجل الحارس الحذر الذي يمسك بمفاتيح المساجد. في مكان آخر منه يسكن الروائي الجامح الذي يكتب عن العوالم الغامضة، ويشقّ طبقات الذاكرة ويُسكن شخصياته في تداخل بين الواقع والأسطورة. كأنما الأدب هو المتنفس الذي يعيد إليه ما انتزعه منه العمل الوزاري من انضباط وصرامة. في رواياته يتخفف من الوزرة الثقيلة، ويترك التاريخ ينقلب حكياً، والوقائع تتحول مصائر.
في حضوره، يلتقي النقيضان: رجل دولة يحرص على أن تبقى الخطبة على السطر، وأديب لا يؤمن بالسطر الواحد. مؤرخ يهوى التوثيق، وكاتب يبحث عن الانفلات. حارس للمؤسسات الدينية لا يهادن، ومبدع يرى أن الخيال أوسع من كل الأبواب المغلقة.
ربما لهذا يبدو التوفيق شخصية يصعب وضعها في خانة واحدة؛ فهو نموذج للمثقف الذي اختار أن يحكم الخيال ويطلق الإدارة، أو الوزير الذي يمارس السلطة بعقلية الباحث، أو الروائي الذي يعرف أن العالم ـ مثل النص ـ يحتاج إلى محرر صارم.
ذلك التناقض هو ما يصنع نسخته الخاصة من السلطة… ومن الأدب أيضاً.






