فن وإعلام

رحلتي مع الصحافة (47) فضاء للنقاش..

يونس الخراشي (صحفي)

مثل كل الصحف تقريبا، شكلت "أخبار اليوم" محطة للكثيرين. أي نعم، هنالك صحافيون استقروا بها، وطال بهم المقام، غير أن آخرين مروا منها سراعا. ومن عجب، فبينما كنت مترددا، أول الأمر، في الانتقال إليها، لأنني أكره "النكير"، فقد وجدتني أقضي فيها ثمان سنوات كاملة. كانت التجربة الأطول على الإطلاق، حتى ذلك الحين.

وهكذا، فقد غادر فؤاد مدني، ومحجوب فريات، ومحمد أحمد عدة، وخالد زهوي، وصلاح الدين رياض، وآخرون، والتحق مولاي إدريس المؤذن، وأمال أبوالمعالي، وعائشة شعنان، وفاطمة أبوناجي، ورشيد الخروبي، وسليمان الريسوني، وصلاح الكومري، وغيرهم، بحيث جاءت أجيال وذهبت أخرى، دون أن يتغير الخط التحريري، أو تشعر بأن هنالك نقصا في المادة الإعلامية، حتى بعد دخول موقع "اليوم 24" على الخط، وهو الذي احتاج إلى مجهود كبير من بعض الزملاء، وكنت ممن ساعدوا في التحضير له في بداياته، على مدى عشرة أشهر تقريبا.

في "أخبار اليوم"، حيث كان ينطلق العمل اليومي دون عقد أي اجتماع لهيئة التحرير، إلا نادرا جدا، على اعتبار أن كل رئيس قسم أدرى بشؤونه، وما يتعين عليه، وحيث إن رئيس التحرير يكون منشغلا بإعداد الصفحات الأكثر أهمية، وحساسية، وهي الصفحات الثلاث الأولى، ويشرف، عمليا، على الصفحة الأخيرة (كانت الصورة التي يجود بها الفنان عبد المجيد رزقو، مثلا، تحتاج إلى جلسة، وتفكير، لجماليتها، ولموضوعها، ولزاوية الالتقاط، وغير ذلك، حتى يتقرر ما إن كانت ستنشر أم تغير)، كنت أشرف على الصفحات الرياضية من الألف إلى الياء.

وحينما أقول من الألف إلى الياء، فمعناه أنني كنت أتلقى المواد، من الزملاء الصحافيين، والمتعاونين، وأقرأها، لغرض التصحيح، وربما تدقيق بعض المعطيات الواردة فيها، وأحيانا تجويد بعض الجمل أو العبارات أو الفقرات، فضلا عن إعادة صياغة العنوان إن بدا لي أنه لم يكن موفقا، ثم إرسال المادة إلى التوضيب، بحيث توضع في مكان معين لها، على أن أراقب الصفحة قبل أن تقع بين يدي سكرتير التحرير ورئيس التحرير، فإلى المطبعة، كي تصبح جاهزة للطبع.

أما العمود، الذي كنت أكتبه يوميا، تقريبا، إلا في ما ندر، فلم أكتبه يوما إلا في خضم العمل. فبما أن الجريدة الورقية تصبح رهن إشارة القارئ في اليوم الموالي (تكون رهن إشارة البعض مساء اليوم نفسه في المدن القريبة، غير أنها لا تصل إلى المدن البعيدة إلا في اليوم الموالي)، فلا يصح أن أشتغل على موضوع معين في البيت، بحيث سيصبح متجاوزا، لاسيما وقد بدأت منصات السوشل ميديا، في تلك الأثناء، تملأ الدنيا وتشغل الناس، وتجعل الخبر مشاعا، وبالمجان.

من أجمل ما عشته في "أخبار اليوم" هو تلك الحلقات من النقاش الذي كان ينطلق فجأة، ودون سابق إعداد، ليمتد، ويطغى، ويحدث أن تشحن به الأجواء، ثم يبدأ في الانطفاء، إما بفعل تدخل ماكر، بنكتة، أو بفعل تخلي طرف ما عن الرد، أو الدحض، أو لأن عملا ما، طارئا، استدعى الكتابة، أو البحث في خبر، أو التصحيح، أو لأن الوقت لم يعد يسعف بالمزيد.

كانت الحلقات تنطلق، في الغالب، من كلمات يلقيها الأخ سعيد محتاج، اليساري القح، ليتلقفها إسماعيل حمودي، ذي النفس الإسلامي، أو أحمد عدة، الأديب الشاعر، أو غير هؤلاء، مثل جليد، الناقد، أو خالد زهوي، المحلل الاقتصادي النبيه، فيشتعل الكلام، ويقول كل ما عنده، فيما ينصت الآخرون، وتتعالى الأدلة والأدلة المضادة، بحيث نعرج كلنا على التاريخ المغربي، حديثه وغابره، أو على الاقتصاد، وبخاصة المالية، وامتداداتها، على المستوى الوطني والعالمي، وفي أحيان كثيرة كان النقاش يمتد إلى الرياضة، فيطلب رأيي، ونضحك كثيرا، إذ غالبا ما يدلي كل بدلوه، ولاسيما في ما يخص "تا وداديت" و"تراجاويت"، والمنتخب، والتدبير العمومي للشأن الرياضي، وعلاقته بالسياسة والتسييس.

ولم يكن النقاش عبثيا، ولا سفيها، ولا تافها، ولا وليد ضحالة فكرية وثقافية، بل كان يستمد جذوره من وعي طافح، يمثله كل الزملاء، بشتى توجهاتهم، وثقافاتهم. ولا أدل على ذلك من أن الأغلبية العظمى منهم كانت له كتبه الأحب إلى نفسه، والتي تقرأ، وتناقش، ويقال فيها الرأي الحصيف. وقلما دخل الهيئة أحدهم؛ ولاسيما محتاج وعدة ومحجوب وكومري وحمودي وجليد، وأيوب الريمي، رحمة الله عليه، بلا كتاب أو اثنين. وللحق، فقد كان الأخ محتاج البطل في هذا الجانب، فكان يخسر ماله كله على الكتب. وكنت تجده يقرأ أكثر مما يتنفس، ويسجل في الرقاقات، ويتمتم، ويناقش، ويبحث، ولا يتوقف أبدا. فمن كتاب إلى كتاب، ومن فقرة إلى فقرة، ومن فكرة إلى فكرة، بلا كلل أو ملل.

في تلك الأجواء بالذات كنا نمضي سحابة اليوم في هيئة تحرير "أخبار اليوم"، لنواصل في اليوم الموالي. ولكم أن تتخيلوا كيف ستكون المقالات التي تصدر في الجريدة، من نخبة كهاته، لديها كل هذا الشغف بالقراءة، والبحث، والنقاش، والكتابة. فمن هنا كان القارئ يجد نفسه أمام باقة من الأساليب، والأوعية الفكرية الثقافية، والأبعاد العميقة في التحليل والتعليل. وتلك كانت واحدة من نقط القوة في الجريدة، فضلا عن شكلها الجميل.

لهذا بالذات، وحين كان أحدهم يقرر الرحيل، نحو تجربة أخرى، كنا نأسف لذلك، حتى وأحدنا، ومنهم العبدلله، كان هو بنفسه يبحث عن بديل، براتب أفضل، وأفق جديد. ومع أن الذين عوضوا الخصاص كانوا، بدورهم، يعطون نفسا جديدا، ويضخون دماء دافقة، إلا أن من خبر الحياة، وعرف كيف أنها تفرق ولا تجمع، كان يأسف للحظات الوداع، ويرجو لو أنها لم تقع.

أذكر هنا، مثلا، حين قرر الأخ طارق جبريل، وهو علم من أعلام التركيب، وفنان كبير جدا في مجاله، أن يرحل عن "أخبار اليوم". لم أصدق حينها الخبر، حتى ونحن نحتفل، أو قل ننعي لحظات جميلة معه وبه. فقد كان رحيل طارق إيذانا بالنهاية، وهو ما حدسته في تلك الأثناء. فلا يمكن لهذا الرجل بالذات أن يجمع حقيبته، ويقرر إنهاء صلته بالجريدة التي صنعها، أو صنع أسسها، دون أن يكون لرحيله ما بعده. ليس لأنه كان يتوقع النهاية، بل لأن رحيله كان يعني بأن شرخا بينه وصاحب الجريدة لم يعد ممكنا رتقه. والحال أن من يضيع رجلا مثل جبريل، إما أنه أصيب بعمى، أو اغتر بما لديه. وفي الحالين، فهي طامة، تدل على النهاية.