ما الحرية إلا مفهوم يحيل بشكل عام على شرط التحكم الذاتي في معالجة موضوع أو قضية ما. وما المساواة سوى حق في التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية دون أي تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المستوى الاجتماعي. وكذلك هو الأمر بالنسبة لقيمة التضامن، التي لا تعدو أن تكون سوى قيمة إنسانية تساهم في بناء المواطنة الحقة، وتضمن استقرار المجتمعات وتطورها. كما أنها تشكل تعبيرا عن سلوك إنساني يعمل على تخفيف المعاناة والآلام عن بني البشر، ويقوم على أساس التعاون بين الناس. أما التسامح فهو من المفاهيم التي تستخدم في السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية لوصف اتجاهات ومواقف تتسم باحترام ممارسات وأفعال أو أفراد نبذتهم الغالبية العظمى من المجتمع. ومن الناحية العملية، يعبر عن دعم تلك الممارسات والأفعال التي تمنع التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة...
ولا ينقص كل ذي معرفة محدودة بالمجال سوى الاشتغال على التمكن من الرصيد المعرفي المرتبط بقضايا حقوق الإنسان والتفكير والتأمل ومناقشة وتحليل حالات تتعلق بها في فضاءات المجتمع والاطلاع على حضور قيمها في الواقع والخروج من دائرة التفاعل السلبي مع هذا المجال.
فالسياق العام لتحسين شروط المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمعات الإسلامية يبدو أنه مرتبط أشد الارتباط بوعي الناس وتمظهر هذا الوعي في السلوك، خاصة فيما يتعلق بتحدي بناء الدولة العصرية في علاقتها بمفهوم المواطنة وإصلاح منظومة التنشئة والتربية داخل إطارات ومؤسسات المجتمعات الإسلامية، وعلى رأسها الأسرة والمدرسة والشارع. وذلك من أجل تقوية مؤشرات التنمية وتعزيز خيار البناء الديمقراطي وتوفير شروط إقلاع اقتصادي وسياسي وتمكين الناس من ظروف الأمن والاستقرار. إضافة إلى التموقع المناسب في المدارات الإقليمية والجهوية، وتسريع وتيرة المواكبة للتطوارت الحاصلة في المنتظم الدولي.
ومن هذا المنطلق، لا نتصور إطارا مرجعيا من حيث القصد والغاية غير السعي إلى تحقيق مبادئ تكافؤ الفرص، وتقليص الفوارق بين مختلف الشرائح الاجتماعية، وتكوين الأفراد اجتماعيا واقتصاديا وصحيا وحقوقيا ومدنيا، وكفالة حق الجميع في نيل الثقافة ورفع المستوى العام للتنشئة والتربية الثقافية التي يتلقاها الإنسان طوال حياته.
ويدخل كل ذلك في إطار رؤية تطمح إلى أن تشكل منطلقا لترسيخ الوعي بالمسؤولية القائمة على التوازن بين الحق والواجب، وأرضية لترسيخ الوعي الجماعي القائم على المشاركة والتعاقد، ومجالا لترسيخ القيم الكونية والتنشئة الشاملة، وللتربية على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ولترجمة المنظومة القيمية إلى مواقف وممارسات وسلوكات مدنية.
فهي عملية تهدف بالأساس إلى مأسسة التنشئة والتربية على حقوق الإنسان بالمجتمعات الإسلامية، وتملك قيم ومبادئ ومفاهيم هذه الثقافة من طرف الناس، وأنسنة العلاقات والممارسات داخل فضاءات المجتمع، وتنمية التوجهات والمواقف والسلوكات المدنية لدى مكونات المجتمعات الإسلامية. وكذا إفعام الأقوال والأفعال بقيم الكرامة والحرية والمساواة والتضامن والتسامح.
وهو ما يتطلب استجابة الفقهاء وكل المشتغلين بالحقل الديني لدعوة استحضار هذه الثقافة في عملهم، ولإعادة النظر في مخرجات تدخلاتهم خطابا وإفتاء، ولمراجعة متون النصوص الشرعية وما تحمله من مضامين ومحتويات متوافقة مع مقاصد محددة من حيث حملها وتصريفها لمؤشرات هذه الثقافة الجديدة والمُجددة. ليتم فعلا التمكن من الأثر المنتظر الكامن في تملك المنظومة القيمية بشكل عام وشامل.
فالمواطنة، كضرورة لدولة الحق والقانون، والتي لا يقام لها اعتبار في التفكير والخطاب الدينيين، هي علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي، وبناء على هذه العلاقة يقدم الفرد الولاء للدولة مقابل حماية هذه الأخيرة للفرد وضمان حقوقه بشكل متساو أمام الجميع. وبذلك تتحول على المستوى النفسي إلى شعور بالانتماء للوطن، وهذا الشعور ينتج الحاجة النفسية التي يشعر بها الفرد سواء كان ذكرا أو أنثى. وهو شعور يتطلب من الدولة ضمان حقوق الأفراد والحفاظ عليها؛ كحق التعبير والتنظيم والعيش المشترك والكرامة وحرية الاجتماع والاختيار الحر والمعارضة...
علما بأن دولة الحق والقانون هي مضامين قبل كل شيء، ومضامينها ينبغي أن تكون منسجمة مع وجودها الذي هو ضمان حقوق المجتمع وأفراده وجماعاته على أرض الواقع من جهة، وترسيخ الوعي بها لدى المواطنات والمواطنين عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمنظومة التربوية من جهة أخرى.
ولا يستقيم التطرق للمواطنة دون الحديث عن العلاقة التي تربط الفرد بالمجتمع والدولة، والتي تقوم على أسس التبادل من ناحية الحقوق والواجبات، لضمان مشاركة الفرد في تسيير المجتمع، وحقه في تتبع وتقييم أداء المؤسسات، وحريته في التعبير والنقد والمحاسبة في كافة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية...
فهي علاوة على الانتماء الجغرافي لفضاء محدد، أي الانتماء إلى وطن بعينه، هي شعور مترتب عن هذا الانتماء، مؤثر في إرادة الفرد، ومُوَجه لسلوكه باتجاه التفاني في خدمة الوطن والسعي من أجل الرقي به، في ظل فضاء يتيح إمكانيات نيل الحقوق والنهوض بالواجبات. لذلك، المواطنة شعور وممارسة؛ شعور بروابط قوية بين الفرد ووطنه، وممارسة كاملة للحقوق في هذا الوطن. لأن ممارسة الحقوق هي جزء لا يتجزأ من أجواء الديمقراطية التي ينبغي أن تسود على مستوى تدبير مختلف تفاصيل العلاقات القائمة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات.
والملاحظ بشكل عام، من خلال أغلب الدراسات التي انصبت على تجارب العديد من بلدان العالم الإسلامي التي لم يترسخ فيها بُعد الوعي الكامل والإقرار التام بالمواطنة وضمان وإعمال مستلزماتها، هو أن الواقع يفرز عموما حالات من اللامساواة في النفوذ وفي إمكانية التمتع بالحقوق والاستفادة من الخيرات والموارد في الفضاءين الخاص والعام، ويجعل المواقع المختلفة للنساء والرجال تتأثر بالعديد من الحقائق التاريخية والدينية والاقتصادية والثقافية، فيقع التمييز وتحصل الخروقات والانتهاكات. وهذا بالضبط ما ينبغي للمفسرين والفقهاء والخطباء والوعاظ والدعاة الاشتغال عليه اليوم.
فبمجرد إثارة قضية من قضايا حقوق الإنسان، أو تناول موضوع من موضوعات الاتفاقيات الدولية، إلا واندلعت نيران الجدل الكلامي وتطايرت شظايا السباب والشتم. الشيء الذي يبرز استمرارية ارتهان منظومتنا الثقافية والدينية لفرز تمظهرات قيم الرفض والخوف وتعزيز القابلية للتبعية بكل أشكالها وأصنافها، وتجليات الانتصار لسطوة الاستهلاك القيمي الديني المحلي رغم تخلفه.
وهو ما يفيد كذلك أنه لا زال جزء من النخبة لم يستوعب بعد أن التراث الغربي بكل مشاربه وتلويناته ليس الوحيد الذي يهيئ العالم لاتباع نهجه في الحياة الاجتماعية. وبقدر ما يتضح أن هناك مبادرات للاستثمار في تعزيز القيم الكونية وفق منطق إيجابي مفيد للشعوب والأمم في الاندماج في الحاضر، بقدر ما يصبح جليا أن هناك مقاومة شرسة لذلك، بدعوى الهجوم على الدين واستهدافه بالتدمير. إلى حد التأكد من أن ما ينقصنا ليس هو القيم في حد ذاتها، بل أناس مُتديِّنون لهم استعداد لتَمَلُّكِها والتَّمكن منها استيعابا وتمثلا.
فمنذ زمن بعيد ما عاد في بلداننا من خلاف بخصوص جواز تغيير حكم شرعي فقهي اجتهادي في مسألة ما واستبداله بآخر مراعاة لأحوال النّاس في زمان ما ومكان ما، ومنذ فترة ليست بالقصيرة ما عاد مُستغرَبا في البلدان الإسلامية أمر تعطيل بعض أحكام الشّريعة وإلغاء أخرى ثابتة بنصوص صحيحة وصريحة من القرآن والسنة والمأثور عن السلف الصالح من صحابة ومن تبعهم بإحسان. هكذا جرت الأمور وتبدّلت الأحوال، وما صار الواقع يتحمل وجودَ مَنْ سيطر عليهم الخوف من التّغير كسُنّة للحياة، ومن اعترى عقولَهم شللٌ مُعطِّل للتفكير والاجتهاد، ومن لازم خطابُهم موقعَ ادعاء التآمر على أحكام الشرع.
وعندما يتعلق الأمر ببناء مشروع مجتمعي في زمان أو مكان ما، يصبح كل شيء وارء القصد يستحق التوقف عنده والتأمل في منطلقاته ومآلاته والاعتبار بدروسه، ويكون جديرا بالرواية والتناقل بين الأجيال، ومُطوَّقا بواجب الائتمان على عدم تشويهه وتغليفه في قوالب مصلحية زائلة بزوال الظروف والأحوال.
والملاحظ أنه بينما ينشغل الناس في دُوَلِهم بالحاضر، الذي يوجد على محك الإكراهات المُعرقِلة والتحديات التي ينبغي أن تُرفع، أبان البعض عن طول كعبه في السباق من أجل حجز مكانة لبلاده في العالم، بسبب استشعاره أنه في سباق للوصول إلى مقومات وعناصر جديدة تقلب الموازين وتُؤسِّس لنظام جديد. والحال أنه في خضم هذا الواقع الموسوم بالتنافس، بل وبالمواجهة والصراع في العديد من الأحيان، لا زال بيننا من لا يُجِيد سوى إتقانه لِدَسِّ الغلو في أذهان الناس وتدمير عقول النشء وتعطيلها.
فأن يخرج من يجاهر بالتهجم على الغير لعدم قدرته على إيجاد الحلول الممكنة والمتاحة، ولإخفاء عجزه على فهم وتحليل وتركيب وتقييم المسائل المطروحة، استقراء واستخراجا واستنباطا ومقارنة، وللتعبير عن ضعف الحيلة في بذل الجهد والوقت من أجل المساهمة في بلورة شروط التجديد والتحديث، ولتعميم التكاسل والتقاعس عن طلب الاستزادة في العلم والاطلاع على ما استجد في عالم المناهج والمقاربات المتنوعة، فهذا تجسيد لنقص في الأدب وعدم احترام وتقدير للمقام وانحراف في الأخلاق، لما فيه من تعبير عن إسناد مهام غاية في الحساسية والخطورة لأشخاص دون مستوى تحمل المسؤولية، وعن تثبيط لِهِمَم الملتزمين بالعمل الجاد والملتزم.
لقد امتد الجهل، حسب العديد من الحالات التي أقحمت أنفها في تداول ونقاش المنظومة القيمية الكونية، إلى حدود الكشف عن عدم الاطلاع وغياب المعرفة بمعاني تصديق الدول على الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية، من حيث قوته الإلزامية ومسؤولية تنفيذ الالتزامات القانونية المنصوص عليها. وما لا يستوعبه العديد من العاجزين عن الاجتهاد هو أن الدول، بفعل الديناميات السياسية والاجتماعية والحقوقية الداخلية، تعرف منذ مدة ليست بالقصيرة تطوارت وطنية بالغة الدقة مَسَّت نسقها الدستوري وقواعد العمليات السياسية الوطنية والإصلاحات الحقوقية. والإسلام من هذه المنطلقات هو دين غير قابل للاختزال في أحكام تشريعية بعينها، بقدر ما هو عقيدة وعبادات وقيم ومُوجِّهات أخلاقية، والقرآن باعتباره كلام الله لا يجوز حصره ولا قصره على أحكام شرعية قابلة للنسخ أو الاجتهاد بالتعديل والإضافة وما شابه ذلك.