مجتمع وحوداث

"رضا الوالدين" ينم عن شهامة وأناقة حضارية

عبد الخالق حسين (رئيس المجلس العلمي لطانطان)
تعمدت أن أنشر صورتي بجوار "والدتي" شفاها الله.. ليلة رأس السنة الجديدة 2025. وأنا أستحضر "خطورة الصورة" وتأثيرها في هذا العصر؛ خطورتها في الاتجاهين: نشر الخير والقيم الإسلامية السامية أو عكس ذلك من نشر التفاهة والسفاهة. غير أني أدرك إدراكًا يقينيًا أن "الحق" أقوى من "الباطل" بقوة السر الإلهي الذي خلق منه "الحق". ومن "الحق القوي" الذي لن يهزم أبدًا إلا في حالة تخاذل أهله ووهنهم عن الدفاع عنه، وتخليهم عن الاعتزاز به، وعدم التوسل بالذكاء وأوجه الحكمة المعاصرة في تسويقه؛ مفهوم (رضا الوالدين) وهو حق تأسست عليه قيمنا وأخلاقنا المغربية العريقة الضاربة في الحضارة والتاريخ.

مفهوم "رضا الوالدين" بما يختزنه من الاستقامة الباطنية، والشهامة، والتربية والوفاء، واتزان الشخصية، والاعتراف بالجميل، وحضور الذاكرة، والعودة إلى الذات، وعدم الانجرار والانجراف مع دعوات الفردانية وعبادة اللذة الشخصية والأنانية يبقى من دعائم الشخصية المغربية الأصيلة والمتميزة. علاوة على أن "رضا الوالدين" ينم عن شهامة وأناقة حضارية. ويعبر عن استقلالية في الرؤية الوجودية والفكر المتحرر من التقليد والتبعية للفلسفات الأبيقورية والعبثية والوجودية السارترية السطحية، وكلها تنتمي إلى الدعوات "المادية/العلمانية" الممجدة للحرية الجسدية والاجتماعية، والتي تقوم على نسف أي ارتباط عائلي مبني على "التعاقد الديني والروحي"، لأنها تعتبر ما بني على الدين من التعاقدات يعبر عن تعاقد استعبادي وتملكي استحواذي.

النظرة المادية تدعو إلى (قتل الأب) وتقصد تصفية الأبوية والأمومة؛ لأن الأسرة بما هي أمومة وأبوة في جوهرها التأسيسي تحيل إلى هذين المفهومين المناقضين لمنظومة القيم اللاحداثية واللاتحررية. فالأمومة والأبوة ينتميان إلى منظومة الأسرة القائمة على قيم: السمع والطاعة وخفض الجناح وعدم الانتهار والصمت والتأدب وعدم التأفف وعدم النقد وتحمل قساوة التربية والمصاحبة بالمعروف والإحسان بعد الكبر واحترام الشيبة وغيرها. 

والمتأمل بعمق في منظومة (رضا الوالدين) سوف يدرك مصادمتها الصريحة لمفاهيم (التحرر العائلي) الذي تبشر به الفلسفات الغربية المعاصرة بمختلف تلويناتها؛ فهذه الفلسفات تقوم على مفاهيم: حرر ذاتك وتمرد على مستعبدك/والديك!! لا تقبل "الأمر" من أحد؛ فأنت عاقل وحر ورشد.. و"الأمر" عبودية (تذكروا موقف إبليس من الأمر الإلهي بالسجود لآدم.. وكيف رفض إبليس الآمرية بإطلاق!!).

إن منظومة (رضا الوالدين) تخترق كل قيمنا وأخلاقنا المغربية: فهي جوهر المحافظة على التماسك الأسري؛ والأمن الاجتماعي المتجلي في انضباط الفرد للأعراف والقيم الجمعية؛ حياءً من الوالدين، وحفاظًا على سمعتهما داخل المجتمع. ورضا الوالدين هو صمام صلة الرحم؛ وكل "التجمعات العائلية" الممتدة إلى "القبلية" الإيجابية بما هي آصرة أخوة واسعة، والمعبرة عن "قيم التواصل والتعاون والتراحم"، وعلى المستوى السياسي هي تمنيع جماعي بمصل (المناعة الوطنية) وجمع الشمل ووحدة الكلمة ضد الكائد المتربص.

كما أن منظومة "رضا الوالدين" تساهم في الأمن الاقتصادي من خلال تمظهرين كبيرين:

أ - إن "رضا الوالدين" وشبكته الوجدانية المعقدة والمتفرعة هو الفاعل والحافز الرئيس وراء كل التحويلات المالية لجاليتنا في الخارج التي تضخ في خزينة المملكة. فورا كل درهم يحوله فرد من الجالية حنين وشوق دفين غير معلن؛ تنعشه وتسقيه في الذاكرة الوجدانية منظومة (رضا الوالدين) وبالضبط هذه المصفوفة اللغوية الخالدة: "عندك تنسى الوالدين.. عندك تنسى خوتك.. عندك تنسى لبلاد". وفي تجليها المهذب والفلسفي؛ عندما يودع الوالد والوالدة ابنهما المستعد للسفر بعيدًا وغالبًا تكون هذه آخر الكلمات الروحانية الخالدة لرضا الوالدين: (سير أولدي الله يرضى عليك.. عندك تنسى راسك!!) وهي تدريج لقوله تعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم). و"نسيان الله" عمليًا كما أثبتت التاريخ الاجتماعي والنفسي للأسرة يتجلى في التنكر لرضا الوالدين.

ب- إنه من المستحيل بمنطق الاقتصاد والربح والمصلحة الشخصية أن نفسر هذا الارتباط الذي ربط المغاربة المهاجرين منذ سنوات الخمسينات وإلى اليوم بمملكتهم الشريفة؛ لقد وجدوا في أرض الغربة كل الإمكانات المادية التي حسنت أجورهم وصحتهم وتعليمهم وتعليم أبنائهم وأدخلتهم جنة الرفاه التي لم يكونوا يحلمون بها. فما الذي يجعل أحدهم يجمع حقائبه ليسافر من أقصى الأرض بمناسبة عيد الأضحى؛ ويطير ساعات طويلة جوًا ليقضي "ثلاثة أيام" عيد الأضحى فقط مع والديه!! ثم ينقلب عائدًا إلى مهجره!! إنه سر رضا الوالدين.

إن (مرضى الوالدين) يستبطن شعلة لا تنطفئ من القوة والقدرة والإرادة والعزيمة والتفاؤل والجرأة والتحدي والدعم النفسي.. وفوق هذا من "المدد الروحاني" و"الألطاف الإلهية" التي تديمها "دعوات الأم والأب الخفية في جوف الليل".

خلاصة:

"أيها التائه" في دروب الفلسفة ومتاهات الجدل العالي؛ لا أحد ينصحك بشرب الماء وأخذ حصتك من الأوكسجين؛ بل هو العطش والخوف من الاختناق يهديانك إلى الحق الذي هو الشرب وأخذ النفس. فاعلم فتح الله بصيرتك؛ أن "الشرب الحقيقي" بعد شربك الأول من حليب أمك.. هو شربك من رضاها ودعواتها. وأن "الهواء الأول" الذي أمدتك به أمك في بطنها وما اختنقت يومًا.. لازلت محتاجًا إليه؛ ما دامت "أمك حية" تترقب عودتك. فاجمع شملك.. وانس فلسفتك.. وعجل بوصالك وصلتك وزيارتك لها. فإنما هي أمك واحدة ووالدك واحد.. وحياتك واحدة.. وشربك الروحي واحد؛ ومفتاحه واحد لا يتعدد: (رضا الوالدين). وتدبر إن شئت فتح بصيرتك وبلوغ مرادك قول الجليل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا؛ أما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا).