فن وإعلام

أنطولوجيا العابر: حكاية الحرف واللون في أعمال خالد الأشعري

رشيد المومني (شاعر وكاتب مغربي - عن القدس العربي)

تحدس الغابة بدنو الفنان خالد الأشعري من عتباتها، فتومئ للعناصر كي تتهيأ للبوح بما تيسر فيها من روزمانة التكوين، أرواح الماء المقيمة تحت لحاء الجذع، ضوء الصخرة المقيم في ذاكرة الأثر، النسغ المتدفق في شرايين الخلايا، تقاسيم البقايا المطلة من شرخ محتمل في جسد البحر، ثم أيضا ذلك الظل الكامن والمنكشف بما أخفاه وما تخَفَّى فيه من مخلوقات غابة شجرية أو بحرية هي هكذا أبدا، لا تكف عن تغيير أفيائها من حال لحال. هناك تحديدا، تترصد العدسة كما الفرشاة، لحظة إشراقة الأثر، في أفق انتشاله من نهر الصيرورة، وإعادة توطين وتأبيد وجوده في سياق ما سيبقى.

كما لو أن ثمة قرابة سرية تصل بين تواطؤ الجهات. وأعني بها جهة الفنان المسكونة بجهات الغابات، وما فاض أو سيفيض من بحارها. قرابة، قوامها أزمنة طويلة من العشق المتبادل، تعودت خلالها الجهات ذاتها، على الكشف عن جاذبية مفاتنها لعدسته الخبيرة، بالإنصات إلى نداء العلامات، والعارفة بسبل الاهتداء إلى صمت الخلوات، تأهبا للفوز بنشوة الالتقاط. وليست العلامة هنا، سوى التجلي الآسر، والقلق في آن، لجسد المادة المعتدة بشغف انفلاتها وأفولها، في ليالي التحولات الهادرة والعظيمة. أيضا، ليست الجهات في السياق ذاته، سوى المعادل الملتبس لامتدادات العالم، المحفوفة برنينها المعدني، الذي تُدَوِّي به أبواق الحضارة، تلك المنفصلة تماما عن زمن الطبيعة، بما هو زمن أصْلٍ مسكون بخصوصية عوالمه.

لذا، فإن التفاعل مع تجربة خالد الأشعري الفوتوغرافية والتشكيلية، لن يخلو من متعة الإرباك، بالنظر لتعدد الإحالات المرجعية التي تأخذك الصورة/ اللوحة إليها.

هي متعةُ حيرةٍ لا تمل من أرْجَحَةِ تلقِّيك بين ما تراه الآن هنا أمامك داخل الغابة، أو أمام البحر.. أمام البحر، أو قبالة جدارية مدثرة بأصداء التعاويذ، ثم بين ما سبق لك ربما أن توهمت رؤيته أو تخيلته خارجها، فالأمر يتعلق باقتناص شطحات تلك التحولات الذرية، التي تحظى بها عناصر التكوين الأربعة، خلال سفريات تناسخها، في إهاب آخر غير الذي كانت عليه، وطبعا عبر أقاليم الجهات اللامتناهية، مراوحة في ذلك بين لعبة الظهور والتخفي. وما نعنيه بالأقاليم، هو الامتدادات المتنوعة والمتجددة لطبائع المادة ككل، باعتبارها الرحم الفعلي لانبجاس جدلية الوجود والعدم، تلك التي تجد فيها عين الفنان خالد الأشعري حالات إبهار بصري وجمالي، ما فتئ يغدق بفيض تلويناتها على اندهاشنا. ومن المؤكد أنها التبرير الجمالي لترحاله الدائم، بين تفاصيل أحواله الشخصية وأحوال تمظهرات المادة المراوحة بين جرس الظهور وصمت التخفي، بحثا عن الأسرار المشتركة الكامنة فيها.

في رواق محمد القاسمي، وضمن هذا الطقس المتفرد، بدا الفنان محفوفا بأضواء مجرة تشكيلية تنبعث ألوانها الرجيمة من ثلاثين تميمة، أحيانا تُشعر العين بكونها مثبتة على بياض الحائط، بما يكفي من هيبة الاتزان، غير أنها في الوقت ذاته، تبدو مقبلة على التحليق في فضاء الرواق، كفراشات سعيدة بنشوة خفتها، لذلك كان على الدهشة أن لا تبالغ في الاقتراب، حرصا على نقاء التملي وفتنة الحلول.

لكن في حضرة من وماذا هي العين الآن؟

يتعلق الأمر بسفر آخر، وبعبور مغاير، غامرت باجتراحه تجربة خالد الأشعري حين ارتأت اليد أن تستبدل آلة التصوير بغبطة الفرشاة، والنزوح من فضاء الصورة إلى فضاء اللوحة. ومن المقاييس الرحبة التي كانت في تجارب سابقة تهمِّش باتساعها وامتدادها أفقيا أو عموديا برودة الحائط وفضوله، إلى المقاييس الصغيرة الشبيهة بشذرات لونية استهوتها الإقامة داخل حميمية إطار محدود، لا يبالي بحضور الحائط أوغيابه.

أكيد أن العين المصاحبة لهذه التجربة، لن تقع في أحابيل القول بقطيعة مموهة بين المرحلتين، بقدر ما ستتساءل عن جمالية اعتماد اللون، ولذة انعكاس لغاته على بياض القماش، بدل الاقتصار على منطوق صورة فوتوغرافية هي أيضا خبيرة باستكناه اللامرئي في تفاصيل الجاهز، أو بين تضاعيف المادة. يتعلق الأمر هنا بانتقال مدهش من المنجز الفوتوغرافي للفنان، إلى منجز تشكيلي ممهور بالرؤية ذاتها. ومرد ذلك ربما كون المنجز الفوتوغرافي للأشعري موشوم حتى الثمالة بهاجس تجريدي/تشكيلي جامح، حيث تتحول آلة التصوير إلى أداة جاهزة – وعلى طريقتها الخاصة -لاختراق وجود كامن، ومحتجب خلف ذلك الظاهر المكشوف، المحيل عادة على مرجعية إسمية، أو مدونة بصرية معلومة. هذا الوجود الكامن، هو الذي يتصدر المشهد الآن، لكن في صيغة منجز تشكيلي صرف، حريص هو أيضا على تنبيهنا إلى عناصره التي هي في طور التشكيل أو التلاشي، داخل منظومة قد تكون كامنة داخل الرؤية الفوتوغرافية، إلا أنها تختزل مع ذلك ألسنة أحوال المرئي، وجوهره الكامن في خلوة الجهة، بما يرتقي به إلى حالة ترميزية قادرة بقليل من التأمل، على شحن الرؤية بأكثر من مسار، حيث يتأكد دائما أن الظاهر بالنسبة للعين الملتقطة، ليس سوى بوابة لعبور باطن غير مجبر على الاحتفاظ بثوابت الظاهر وسماته. كما يتأكد بأن هذه التجربة ليست محض مغامرة لبدء أعمى، أو افتتاحية ملتبسة لبياض مجهول الهوية، بل هي امتداد لما راكمته علاقة الكشف بالصورة، من خبرة جمالية بأسرار الهندسة، التي يدمن الشكل تقمص تحولاتها، كما هي نهايةُ تحكُّم ٍأنيق في شطحات وزوغان اللون، ذلك الذي غالبا ما يفضي – في حالة تكلس اليد- إلى تأليب الرطانة كي تستبد بالمكان.

هي إذن لحظة شبيهة بمكابدة الانفلات من سلطة المُعطى، الذي يحدث أن تمتثل له التقنية الفوتوغرافية، والاستسلام، بدلا من ذلك إلى نداء الاستحالة. وهما معا، يجدان في التشكيل الملاذ الأمثل، والممر الأكثر طمأنينة إلى حرية الخلق، واللعب البهي واللانهائي بظلال الثابت ولا محدودية تحولاته، وأيضا بأصداء الوشم الفوتوغرافي الحاضر في ذاكرة التشكيل.

والنتيجة، حوارية ثلاثية الألوان، تَفِي بنسج هندسة ممعنة في التلقائية، كما هي ممعنة في فتنة التباسها. خلفية زرقاء، وأحيانا شفقية محفوفة بهامش أبيض. بينما في الواجهة، يتربع الأسود الداكن، مكللا بنحافة شطح طفولي، قوامه محتمل حرف حاد ورهيف، لا يكف عن تجريب انفلاته من شرنقة أصله الكاليغرافي، بحثا عن رحابة التحول والتشظي، ثم يتمرن الحرف ذاته وبتقنية فادحة، عبر امتداد اللوحات الثلاثين، على تحيين كل ما تمتلكه أقاصي العمق من تجليات ممكنة، كنطفة تتجاذبها مصائر غائمة، ومقامات مسكونة بقدر التوزع والتضاد، حيث تغدو اللوحات في مسارها مرايا متحركة، يتدرج على سديمها خفق الكائن بإيقاعاتها الشائكة والمتشابكة، التي هي إيقاعات الكينونة بنكهتها الزرقاء.

في صلب هذه اللعبة العالية، أتاح لنا خالد الأشعري فرصة نسيان الهالات القديمة والحديثة التي كان يتموضع الحرف داخلها احتفاء بجماليته وغموضه. بقداسته أو دنيوته، التي غالبا ما تستبد بانبهارها على قاعدة ألفة مبجلة، لا تكف ذاكرة الكتابة والقراءة عن نسج خيوط أحابيلها. نسيان، لم يتحقق إلا من خلال إتلافه لهذه الخيوط/الخطوط، عبر لعبة سهلة وماكرة، تتمثل في الإفراغ المطلق للهوية الكاليغرافية، التي تعود الحرف على التبجح بامتلاكها، إلى جانب تسديم هذه الهوية، عبر تأليب جمالي لخلفية متواطئة تغري الرائي بالبحث عن لا مرئي آخر، لا يمكن أن يكون سوى الامتداد المضيء أو المعتم لمحتمل الحرف.

ثلاثة ألوان فقط، لها من الصفاء والبساطة ما يكفي لإضرام نار الغبطة ونار السؤال. ثلاثة ألوان لا أكثر ولا أقل، كلما تتالت تشكيلات تمائمها، هيْمن رهان ذلك المحو المؤشر لبزوغ جديد ومختلف، دون أن يمس نسق التعاقب/التتالي، شرخ أو خلل. ثلاثة ألوان، تتواثب على رقعة في حجم الكف، الذي هو أيضا حجم الكون أو يزيد قليلا، حيث السيد الحرف، يهجس صامتا بما لم تره العين من قبل.