فن وإعلام

هل هي نهاية الصمت؟

عبد السلام بنعبد العالي (عن مجلة "المجلة")
"لا خلاص إلا في محاكاة الصمت. لكن لغونا أسبق من الولادة. نحن جنس من المهذارين والمنويات الثرثارة، مشدودون كيميائيا إلى الكلام" (سيوران)

تستعمل اللغة الفرنسية عبارة S’installer dans la conversation دلالة على أن "تجاذب أطراف الحديث"، ليس دائما مجرد خطف كلمات ورميها هنا وهناك (ما تدعوه الدارجة المغربية "التشْيار بالكلام")، وإنما هو إقامة في الحوار وارتياح له. للحوار صالونُه حتى إن لم يكن حوارَ صالونات. الحوار طقس جماعي، وهو مقام نجالس فيه الآخر، ونتوجه إليه بكل جوارحنا، ونسعى لأن نفهم كل ما يصدر عنه. نتابع حركاته وسكناته، ونصغي إلى كلامه وصمته، ونحاول أن نستبق ما سيصدر عنه، ونبذل أقصى جهدنا لحدس ما سيقوله، ونراعي، كل لحظة، سياق حديثنا وتوقع مجراه ودرجة حرارته وارتفاعه وانخفاضه. مقام حوارنا يتجاوز الحركات والسكنات، الكلام والصمت، كي يبلغ تلك الأجواء التي تتشكل أثناء الحوار خارج حدود الكلمات، فتمهد لكل طرف من طرفيه لأن يخوض غماره ويتحمس له. فكأن هذه الإقامة هي التي تبني الجسر الحقيقي بين الذين يتجاذبون أطراف الحديث. 

يقع الحوار إذن عند مفترق طرق بين الكلام والصمت، بل إنه يمتد إلى التخوم. فهو تبادل للكلمات بقدر ما هو لحظات للتفكير أو الإصغاء الى الآخر، الى كلامه وصمته. تبادل أطراف الحديث لا يعني دائما أن هناك صوتا يُسمع، فقد يعني كذلك "تبادل الصمت"، أن يستمع كل منا إلى صمت الآخر. فليس التوقف عن الكلام مؤشرا الى عطل أو انقطاع في التواصل، بل هو سبيل للاستماع، وهضم كلام الآخر وفهمه، إثراء للرد الخاص بنا. وقد قيل قديما "من آداب الكلام حفظ اللسان". هذا ما يؤكده أصحاب الموسيقى الذين يقولون: حينما يقطع الصمت الانسياب المتواصل، فإنه يخلق حيزا يتيح للأصوات تجاوز ذاتها والوصول إلى رنة من وراء الرنين. 

لإدراك معنى ذلك، ينبغي أن نميز بين صمت وصمت: صمت يتكلم لأنه جزء من الكلام وليس طرفه المقابل، وصمت أخرس، صمت صامت لا يتلبس الكلام. التقابل إذن هو بين الصمت والسكوت. ذلك أن الصمت عندما ينبذ الكلام يغدو سكوتا mutisme، والسكوت هو إرغام على الصمت، أو، على الأقل، اضطرار إليه وعجز عن التكلم. يقال إن اللغة العبرية تطلق الكلمة نفسها على السكوت وعلى العنف. ذلك أن السكوت هو في الغالب إسْكات، إنه عنف ومنع واضطهاد. لا عجب أن ترتبط أشكال العنف بالمنع عن الكلام، وأن تؤدي حالات السكوت إلى أعمال عنيفة، وأن يقترن التطرف بالامتناع عن الانخراط في أي شكل من أشكال الحوار. 

تحرير الكلام

تجنبا لهذا العنف، يكون علينا "تحرير الكلام" كما تقول العبارة الفرنسية libérer la parole. آنئذ يغدو الصمت إفصاحا عن إمكان القول، ونوعا من فسح المجال للتكلم. معنى ذلك أن الصمت لا يغدو صمتا إلا حينما يَعْلَق بالكلام وليس حينما ينبذه وينفصل عنه. حينئذ يغدو الصمت جسد الكلام، هو الذي يغذيه من تربته الخصبة، فيوصل بين أجزائه. عندما تخفت شدة الصوت وتوشك الكلمات على الصمت أو استعادة أنفاسها، يأخذ الآخر الكلمة بدوره، ليطرح حججه أو تجاربه الخاصة. بعيدا عن تفكيك الحوار، فإن خيط الصمت هو الذي يربط بين الأفكار ويضمن مواصلة الحوار، ويعزز فهم الكلام وسلاسته. 

في الحوار، غالبا ما يُمثّل تقاسم الصمت صورة من صور التواطؤ بين المتحاورين، بل إن الصمت يتفوق أحيانا على الكلام ليضم الأفراد تحت مظلته في لحظات تأمل منظر طبيعي، أو تملّي وجه من الوجوه، أو في لحظات تلقّي عبارة مؤثرة. في مثل هذه اللحظات، يسود صمت يجعل الكلام زائدا على الحاجة، لكن التبادل يظل قائما. هناك اتفاق ضمني يربط بين المتحاورين، يغذي خفة اللغة وحركة المد والجزر لكلمات تهتز على شساعة الصمت. في الحوار، يمثل الصمت جوهر تحقيق هادئ للكلام: عندما تتخطى الكلمات الشفاه وتختفي في لحظة النطق، تتحول بفضل الاستماع إلى معنى خاص للشريك الذي يتلقاها، ليغذي بها حديثه القادم. وعندما ينتهي تجاذب أطراف الحديث، يصبح الصمت الذي يسكن كل فرد، مفعما بالتأمل الداخلي الناتج من الكلمات المتبادلة، مستمرا في شكل آخر. 

على غرار الإيماءة أو الحركة، لا يجسد الصمت جمودا مفاجئا للغة، بل يساهم في نقل المعنى على قدم المساواة مع اللغة والتعبيرات الجسدية التي ترافقها. بل إن الصمت قد يوسع مقام الحوار فيفتح مساحة من الحرية داخل التفاعل، مانحا كل متحدث الفرصة للمشاركة إذا أراد، أو لتغيير مسار الحديث، أو إنعاشه وإحيائه، أو حتى إنهائه. صحيح أن الإغراق في الصمت قد يفكك أواصر الحوار ويذيبه، إلا أنه لا يكون في هذه الحالة إلا مثل الثرثرة والخروج عن مقام الحوار. الإفراط في الصمت ثرثرة صامتة تفك الوصل بين المتحاورين، مثله مثل اللغو أو الإفراط في الكلام. حينئذ لا يكون الصمت إلا تعبيرا عن ملل أو لامبالاة، أو عدم ارتياح إلى ما يُقال. 

في الزمن الرقمي

حينما لا يكون الحوار وجها لوجه، حينما لا يغدو إقامة في الحديث، وإنما تواصلا وتبادلا للكلام اعتمادا على الوسائل الرقمية، فإنه لا يسمح بـالصمت. فهذه الوسائل تهاب الفراغ. أي توقف عبر الهاتف أمرا لا يمكن تحمله لأنه يعطي انطباعا بأن الآخر قد اختفى رفضا لمواصلة الاتصال، أو، في أحسن الأحوال، أن خللا قد وقع، وأن الاتصال انقطع، مما يثير تساؤلات قلقة: "هل أنت هنا؟"، "انقطعنا؟"، "لا أسمعك!". يغدو الصمت هنا عطبا يوقف الحوار. في عالم التواصل الرقمي، يفقد الصمت كل أهميته، فيصبح عطلا أو قطيعة يجب إصلاحها على الفور. بل إنه يغدو دخيلا يشوش على الحوار، ويحول دون الاتصال والتواصل. 

مع انتشار الوسائط الجديدة، صار اللجوء إلى الصمت أو التأمل الداخلي في طريقهما إلى أن يغدوَا أمرا متعذرا في عالم شديد الثرثرة. تلاشت تدريجيا جميع المراجع الأساسية مع هيمنة الإنترنت والهاتف الذكي في العقود الأخيرة، فأصبحنا نحيا انقطاعا أنثروبولوجيا عميقا. فأصبح الجميع يتصل من غير أن يتواصل، وغدا الصمت عدوا لكل حوار، فهو ما يوقفه ويحول دونه. غير أن ذلك لم يمنعنا من أن نستمر في التحدث، لم يمنعنا من أن نتحدث، ونتحدث فقط للتحدث، حتى لو كان كلامنا مجرد "تشْيار". 

لقد عجزت الأنظمة الشمولية تمام العجز عن القضاء على الكلام وايقافه، وها هي الآن تواجه انتشاره عبر تعدد تقنيات الاتصال، حيث صار في إمكانه أن يتوسع بلا نهاية، حتى إن كان لا يجد من يستمع إليه. صار ضجيجا لا يتوقف مهما تضاءلت دلالاته وافتقرت معانيه.