مع توالي السنين تولدت لدي قناعة مفادها أن الأماكن لا تختلف في شيء عن بني البشر بمعنى من المعاني. فهناك أقطار و أمصار و أرياف تنفذ إلى قلبك من أول نظرة و تستقر به على الدوام، و هناك بلدان و مدن و قرى تنتهي علاقتك بها بمجرد اكتشافها و ذلك بصرف النظر عن درجة جمالها و غنى تاريخها و حجم مواردها بالضبط كما أن هناك من الآدميين من يعجبك من أول لقاء و من لا تتفتح له نفسك أبدا بغض النظر عن قيمة ثيابه و ثمن حذائه و ماركة ساعته اليدوية و جيل هاتفه الخلوي ... بل و بغض النظر حتى عن مستواه الاجتماعي و الدراسي و الثقافي.
لست مضطرا لأن أقسم بأغلظ الأيمان بأن حاضرة وادي الذهب، مدينة الداخلة، من ذلك الصنف من الأماكن الذي يرفض مغادرة ذاكرتك و لو استعنت بالقوة العمومية في طرده !!!
فبعد تردد طويل و تأجيلات تكررت مرات و مرات وجدتني قبل سنوات قليلة على تراب هذا الصقع من أصقاع المملكة. كان لابد أن يصل شريط سواحل الجنوب العذراء و كتبان الرمال الذهبية الممتدة على مدى البصر إلى نهايته لتحط بنا الحافلة الرحال أخيرا بكورنيش المدينة. منظر البحر و البنايات المطلة عليه جعلني لا أرغب لا في استكمال نومي و لا في تمكين عظامي من استعادة وضعها الطبيعي بعد يوم كامل و ليلة كاملة من السفر... و بمجرد تسجيل نزولي بأحد فنادق منطقة "الترس" انخرطت في أول جولة استكشافية تحت أشعة شمس صباحية دافئة و رياح خفيفة منعشة أبت إلا أن ترغم الأعلام الوطنية على الرفرفة بلا هوادة لتذكر كل من رفع بصره نحوها بأنه على أرض المملكة المغربية و ليس بصحراء ناميبيا أو بفيافي ولاية أريزونا الأمريكية.
دام مقامي بالمدينة ثلاثة أيام. كان هذا الحيز الزمني كافيا للاسترخاء و للوقوف على مؤهلات المدينة و خصوصياتها و ما تحقق بها من إنجازات على امتداد أربعة عقود و نيف.
و بصراحة، لقد أبلت الدولة المغربية البلاء الحسن، إذ أفلحت الحكومات المتعاقبة و بدرجة معتبرة من الكفاءة في تحويل المدينة من بلدة صغيرة و متواضعة إلى واحدة من حواضر المملكة الواعدة ببنية تحتية محترمة و شوارع و مدارات و ساحات جميلة و مهيبة و حدائق غناء و خدمات عمومية في المستوى المطلوب في الغالب. و بالنظر إلى طبيعة المشاريع المستقبلية المتنوعة المبرمجة بالمنطقة، و بالنظر إلى حجم الاستثمارات التي من المنتظر أن تتدفق على هذه الجهة فإن المدينة و ضواحيها ستعرف دينامية غير مسبوقة من غير المستبعد أن تثير حسد باقي الجهات. وعلى الصعيد السياحي بشكل خاص فإن كل شروط التميز متوفرة و خاصة وضع المدينة كشبه جزيرة متفردة ببحر رائع و مناخ قل نظيره. و لك، عزيزي القارئ، أن تتصور ما سيكون عليه هذا التجمع الحضري بعد ربطه بالشبكتين الكهربائية و السككية الوطنيتين ... و بعد الطي النهائي لملف قضية وحدتنا الترابية.
للأسف الشديد، لم تدم فرحتي طويلا، إذ سرعان ما كادت انطباعاتي الأولى أن تترك مكانها لانطباعات مغايرة عندما لاحظت بأن المدينة ـ و على الرغم من تاريخها القصير ـ ماضية لأن تصبح مثل باقي الحواضر المغربية حيث هناك، كقاعدة عامة، واجهة براقة (غالبا ما تكون عبارة عن شارع رئيسي وحيد) و مجموعة مواقع أقل بريقا (غالبا ما تكون عبارة عن أحياء سكنية عادية أو أقل من عادية) إضافة إلى ما تيسر من دروب هامشية أو نصف هامشية يتعايش بها الفقر و الهشاشة و البشاعة. رصدت في أكثر من مكان وجود جيوب مقاومة للتنظيم العمراني و بنايات رديئة و أخرى عشوائية ما كانت لتنتصب لو كان المنتخبون من طينة الفنانين و المبدعين و لو كانت السلطة حاضرة بالشكل المطلوب و لو زاد مهندسونا من درجة اجتهادهم. و مع توالي الجولات الاستكشافية و ازدياد توغلي بالشوارع الجانبية بدأت أتوجس خيفة من مستقبل المدينة، و هذا هو الدافع الرئيسي لتحرير هذا المقال.
إن من حباه الله بموقع مثل شبه جزيرة الداخلة لا يتركه عرضة للضياع و التدبير الاعتباطي. المدينة تستحق وضعا أفضل بكثير من الوضع النمطي الحالي و خاصة عندما نعلم بأن تشييدها كان من الصفر تقريبا، أي أن القائمين على شؤونها العمرانية منحت لهم فرصة التفنن في وضع تصور مدروس لحاضرها و مستقبلها على العكس من زملائهم العاملين بالمدن العتيقة و العشوائية الذين عانوا و مازالوا يعانون الأمرين في سبيل إيجاد حلول ملائمة للمشاكل المطروحة الموروثة الأمر الذي يعيق فعلا كل عمليات الترميم و التأهيل و التطوير المكلفة و المعقدة و قد يجعل من هذه العمليات مجرد ترقيع سرعان ما يعريه امتحان الزمن. إن التذرع بوجود إكراهات أمر غير مقبول في حالة الداخلة مادام أن المدينة مازالت عبارة عن ورش مفتوح.
إني لا أرغب إطلاقا في تبخيس مجهودات مهندسينا أو الحط من قيمة تكوينهم العلمي لكن الواقع يؤكد بالحجة و الدليل بأن التخطيط العمراني العصري تخصص غربي بامتياز، و لسنا في حاجة إلى الانتقال إلى أوروبا أو أمريكا للوقوف على هذا المعطى. يكفي أن نقوم بجولة قصيرة بقلب الدارالبيضاء أو الرباط أو طنجة أو تطوان أو وجدة أو بمنطقة "حمرية" بمكناس أو بمنطقة "الفيلاج" بخريبكة لنقف على سمو العمران و المعمار الكولونياليين. أجدادنا أبانوا هم أيضا عن علو كعبهم في مجال التخطيط الحضري فتركوا خلفهم في فاس و مراكش و تارودانت و شفشاون و بمواقع أخرى مدنا مندمجة كاملة مازالت مصدر إبهار و إلهام لكل من يزورها. لكن مدينة اليوم ليست هي مدينة الأمس، و متطلبات المدينة المعاصرة ليست هي متطلبات المدينة الإسلامية القديمة. و اقتناعا منها بهذه الحقيقة الساطعة لم تتردد دول الخليج في الاستعانة بثلة من خيرة المهندسين العمرانيين و المعماريين الأمريكان و الإنجليز و الألمان و الفرنسيين على الخصوص ... و ها هي النتيجة ماثلة أمام الجميع اليوم. انظروا إلى فخامة الدوحة، و تأملوا في هيبة الرياض، و دققوا النظر في شوارع و حدائق و صروح دبي و أبو ظبي و مسقط و الكويت و المنامة و غيرها من مدن المنطقة.
قد يقول قائل : لولا المال ما كان لهذه التجمعات الإسمنتية البديعة أن ترى النور.
هذا ادعاء لا يجانب الصواب، لكن ما عسي أن يصنع المال في غياب العلم و حسن التدبير ؟ ما عسى أن ينتج المال في غياب سلطة لا يخشى رجالها و نساؤها في الله لومة لائم ؟ كيف للمال أن يؤدي وظيفته كاملة إذا سمحنا بتفشي البشاعة و غضضنا الطرف عن التلاعب بالتصميمات و أهملنا واجب الصيانة ؟
و قد يقول قائل آخر : إن التخلي عن مهندسينا و تعويضهم بمهندسين أجانب هو بمثابة تضحية بجزء من سيادتنا.
لماذا لا نعتمد هكذا مقاربة عندما نكون بصدد البحث عن مدرب جديد لأحد فرقنا الرياضية الوطنية ؟ و لماذا عهدنا بمهمة وضع تصميم محطة قطار مدينة القنيطرة الجديدة و الرائعة لمهندسين إيطاليين ؟ و لماذا رفض دونالد ترامب الأمريكي التفكير بهذه الكيفية عندما قرر وضع منصف السلاوي المغربي ـ البلجيكي على رأس الفريق العلمي الذي أسندت له مهمة تطوير لقاح مضاد لمرض كورونا ؟ و لماذا ...؟ و لماذا ... ؟ إن النظر إلى المسألة من هذه الزاوية من شأنه تكريس العصبية و الرداءة لا غير. شراء الكفاءات الأجنبية أو استئجارها ممارسة رائجة ليس فقط في المجالات ذات الطابع التقني المحض بل حتى على مستوى مجموعة من القطاعات السيادية الحساسة و خاصة بدول العالم الثالث. المصلحة العليا للبلاد هي الغاية المنشودة دائما مهما كانت الوسيلة.
أعتقد بأن الوقت مازال يسمح بتدارك التواضع العمراني المرصود و الذي تؤكده بالخصوص الصور الجوية الملتقطة للمدينة. هناك حاجة ماسة إلى الضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسه العبث بشكل الحاضرة و لو باستعمال طلاء غير مناسب أو بتشويه شرفة أو نافذة أو بتركيب سياج يفتقر إلى الذوق السليم. لابد من توفرهذا التجمع الحضري الفتي على لمسة جمالية لخلق تناغم مقبول بين إبداع الطبيعة و اجتهادات الإنسان، و حبذا لو تجندت كل الأطراف المعنية لتفعيل المثل الإنجليزي القائل :"غرزة في الوقت المناسب توفر تسعا"، و حبذا لو منح للمدينة وضع خاص (كذلك الذي استفادت منه مدينة إفران لفترة طويلة) لتسهيل تدبير شؤونها و للتحكم في توسعها حتى لا تتحول على المدى البعيد إلى غول يصعب تطويعه، و حبذا أيضا لو شرعت السلطات العمرانية من الآن في استشراف المستقبل بتحديد مواقع البنيات التحتية الكبرى التي لم يبرمج بعد الجدول الزمني لإقامتها و برسم حدود التوسع الممكن و المنتظر.
مدينة الداخلة لا تستحق أن تكون حاضرة عادية أو حاضرة متواضعة. كل شيء يؤهلها لأن تكون ليس فقط مركز جذب استثماري متعدد الأبعاد و من الطراز العالمي بل و فضاء جميلا للعيش و التعايش أيضا و لا أدل على ذلك من رفض معظم الوافدين عليها من مختلف مناطق المملكة استبدالها بمستقر جديد ... و أملي أن تبذل كل الجهود الممكنة للارتقاء بها إلى مصاف أبهى الحواضر الأفريقية و العربية على الأقل، أما إذا ظلت على حالها أو تراجعت وتيرة تنميتها فقد تتوقف عن جذب الناس و ستظل فقط وجهة للرياضيين الراغبين في ركوب الأمواج.
ختاما، وجب التذكير بأن الحضارة تقوم أساسا على ساقين اثنتين : العمارة و التراث المكتوب. فلا غرو إذن أن يعتبر المفتشون العمرانيون بفرنسا أنفسهم بمثابة آلهة ـ على حد تعبير أحد أصدقائي الفرنسيين ـ مادام أن قراراتهم و تقاريرهم و ملاحظاتهم و توصياتهم لا تخضع للمناقشة أو المراجعة و لا تملك الجهات التنفيذية غير التعاطي معها بالدقة و الحزم اللازمين... كما وجب رفع القبعة لكل أولئك الذين هجروا ذات يوم ديارهم و مدنهم أو قراهم الأصلية و لم يترددوا في قطع مئات الكيلومترات للاستقرار بهذا الربع العزيز من مملكتنا و المساهمة في إعماره و بنائه في وقت كانت فيه المدينة مجرد نواة حضرية تفتقر لكل شيء تقريبا.