فن وإعلام

محمد بنطلحة، شاعر يعيد تشكيل اللغة ويُحلّق بمعانيها نحو عوالم جديدة

الحسين خاوتي
يقف الشاعر المغربي محمد بنطلحة كأحد الأصوات الفريدة التي تجاوزت حدود التقليد وابتكرت أفقًا جديدًا للتعبير الشعري. هذا الأفق لا يعتمد فقط على الانفلات من القوالب المألوفة، بل يركز على تأسيس علاقة عميقة وجديدة بين اللغة والمعنى. في شعره، تصبح اللغة بطلًا رئيسيًا، حيويًّا وملهمًا، قادرًا على رسم عوالم متداخلة ومتعددة المعاني ،وليست مجرد أداة . 

محمد بنطلحة "قناص الرؤى اللغوية"بامتياز ، فهو يغوص في جذور اللغة ، يكسر قوالبها المعتادة، ويخلق منها عالمًا جديدًا ينبض بالحياة والتجدد، في تجربة شعرية تقترب من الفلسفة بقدر ما تعبر عن الإحساس والوجدان.

يمنح بنطلحة كلماته في قصائده أبعادًا جديدة، تتجاوز وظائفها القاموسية التقليدية، فتتحول إلى صور مركبة تتجاوز السطح وتغوص في عمق التجربة الإنسانية. إنه يتعامل مع اللغة كأنها كائن حي، يعيد تشكيلها وصياغتها بطريقة تجعلها تتفجر بمعانٍ وإيحاءات تتجاوز ما هو متوقع أو تقليدي، ليحيلها إلى حقل خصب للاكتشاف والتأمل. 

في قصائده، يخلق الشاعر ما يمكن وصفه بـ"تشبيك الدلالات"، حيث تتداخل المعاني وتنمو من عمق الكلمات، مما يدفع القارئ إلى الوقوف أمام كل كلمة وتأملها، وكأنها تُفتح له نوافذ جديدة على أفق لا ينتهي.

يشكّل بنطلحة نظامًا لغويًا خاصًا به، حيث تتحرر الكلمات من وظائفها التقليدية، فيتحول النص إلى "ساحة لعب لغوية"، ينسج فيها الشاعر الصور والأفكار، ويمزج الرموز بالدلالات في مشهد شعري معقد ومشوق، يحمل القارئ إلى فضاءات أبعد من المألوف. 

يرى بنطلحة أن الشاعر ليس مجرد ناقل للأفكار، بل هو منشئ لعوالم خاصة، يصنعها عبر التجربة الداخلية مع اللغة ذاتها. اللغة هنا ليست انعكاسًا للواقع فحسب، بل هي واقع موازٍ، يمتلك قوته وقادر على منح الحياة للأفكار والرؤى بطرق تتخطى التقليد.

في هذه التجربة، يتحول الشعر عند بنطلحة إلى دعوة للتأمل والشك، فهو لا يقدم إجابات جاهزة بقدر ما يفتح الأسئلة ويدعونا لإعادة التفكير في المعاني، بل وحتى في اللغة نفسها. وهكذا يصبح شعره ساحة للحرية، لا تتوقف عند الشاعر بل تمتد للقارئ، ليكون شريكًا في عملية التفسير والفهم، ويصبح التفاعل مع النص تجربة ديناميكية، تدعوه إلى الغوص في عوالم ودلالات قد تبدو غامضة لكنها تثيره وتدفعه إلى اكتشاف أعمق. قصائد بنطلحة تشكل نوعًا من "التوقيف اللغوي" للمعنى، بحيث يُجبر القارئ على الوقوف عند كل كلمة، لا مجرد قراءة عابرة، بل غوصًا في عوالم جديدة.

هذه التجربة الشعرية تمثل رحلة للذات الإنسانية في سعيها وراء الحقيقة، وتحريرها من حدود الجاهز والمكرر. هنا، تتحول الكلمات إلى كائنات حيّة تتطور وتتكامل، لتصبح اللوحة الشعرية التي يرسمها بنطلحة أكثر من مجرد نص، بل مشروعًا فلسفيًا ولغويًا يدعونا إلى التفاعل معه والانفتاح على رؤى وجودية جديدة. إنه شاعر لا يرضى بالمألوف، بل يسعى دائمًا إلى كسر الحدود وتجاوز التوقعات، ليصل بالشعر إلى فضاء غير محدود من التأملات والاحتمالات، حيث تتشكل القصيدة كنظام فني متكامل، يحكمه التوتر الإبداعي والانفتاح على العمق الإنساني.

يأتي شعر بنطلحة كنموذج للحداثة الشعرية التي ترفض الرتابة والقوالب الجاهزة، وتجعل من الشعر فضاءً لاكتشاف الذات وإعادة تعريف الوجود. هنا، لا يُطرح الشعر كمجرد انعكاس لعالم موجود، وإنما محاولة لبناء عوالم جديدة تُنير جانبًا مخفيًا في الذات الإنسانية، وكأنه يدعو القارئ للانضمام إلى رحلة لا تنتهي من الاكتشاف. بهذه الطريقة،وبذلك يشكل شعره تجربة فريدة، لتتحول القصيدة إلى كائن حيّ يمزج بين العقل والشعور، بين الفلسفة واللغة، ويترك الباب مفتوحًا أمام القارئ ليصبح جزءًا من هذه اللوحة.

ختامًا، يجسد محمد بنطلحة شاعرًا استثنائيًا يحرر الكلمة من ثقل معانيها المحددة، ويمنحها بعدًا فلسفيًا، حيث تتداخل حدود الدلالات وتتفتّح على فضاءات جديدة. قصائده هي تجسيد فعلي للغة الحرة، لغة تتحدى القيود وتعبر عن رؤية شعرية شاملة تضيء جوانب عميقة للوجود الإنساني. بهذا، يعيد بنطلحة تعريف الشعر، لا كمرآة تعكس الواقع، بل كنافذة تفتح على أفق يلامس مجد اللغة وإمكاناتها اللامحدودة.